Edward Manet
بين يوم نزيفك الأول ويوم نزيفك الأخير أهدرت عمرك وأنت تنتظرين. والانسان المنتظر لا يغادر مكانه بل يبقى علامة فارقة على مفترق الطرق لعلّ المنتظَر يصل.
يوم آلامك الأولى وعدوك بحياة جديدة، فصدّقتهم وانطلقت: درست وأحببت وعملت وتزوجت وأنجبت ونجحت، وحين توقّف هدر الدم اكتشفت انك كنت وحدك طوال الوقت. كتبك المصفوفة على الرفوف مغطاة بغبار الوقت، والرجال الذين عشقتهم تغيم وجوههم في ذاكرتك، وزوجك مشغول عنك بنجاحات وانتصارات، وأولادك موزّعون على مدن وبلاد وحيوات لا مكان لك فيها، ونجاحك وسام نائم على مخدة. اما انت فمركونة كسيارة ذات طراز نادر.
أمضيت عمرك تنزفين دماً وترشحين ماء وتتصبّبين عرقاً وتتقطّرين دمعاً حتى صرت جافّة كقطعة غسيل منسية تحت شمس الصيف. ومع ذلك وجدت الوقت لتحقّقي ما وعدت نفسك به وما ظننت أنّ الحياة تنتظره منك. لكنك الآن وحيدة كحبّة زيتون متروكة على الغصون العالية طعاماً للطيور العابرة.
مسكينة أيتها المرأة النازفة عمرها!
انتظرت آلامك الأولى، ومن بعدها صرت تنتظرين تغيّر إيقاعات جسمك وتقلّب مزاجك وترسمين الخطط المنسجمة معهما. ثم توالت سلسلة الانتظار: مواعيد الحبيب، مواعيد الامتحانات، مواعيد العناية بالجسم، مواعيد العمل، مواعيد الزوج، مواعيد الأبناء وتواريخ ميلادهم ونجاحاتهم وسفرهم، مواعيد الفحوص المخبريّة، مواعيد الأعياد والهدايا، مواعيد المناسبات الاجتماعيّة... تنتظرين وتنتظرين ثم تنتبهين فجأة الى أنّك صرت وحدك بلا مواعيد وبلا وعود. في الحقيقة لم تصيري وحدك بل كنت كذلك طوال الوقت، إلّا أنّك في غمرة مشاغلك وواجباتك لم تشعري بذلك. كان ثمة ضجيج يملأ المكان والزمان حولك، وكانت هناك أعمال كثيرة فلم تجدي الوقت كي تنتبهي. غير أنّك واجهت وحدك كلّ ما جرى معك، وحين كان الآخرون يحضرون فلكي يطلبوا منك الكثير من الاهتمام والرعاية. اليوم فقط نظرت في المرآة، لا كما كنت تنظرين كلّ يوم وأنت تضعين مساحيق التجميل، أو كما كنت تراقبين مزيّن الشعر وهو يضع اللمسات الأخيرة على تسريحتك الكلاسيكية، ولا كما تراقب امرأة لم تحمل همًّا في حياتها نجاح جسمها ووجهها في إخفاء عمرها، بل نظرت كي تري العمر المرسوم على وهجك المتعب وجسمك المترهّل وشعرك المزروع في أثلام رماديّة جافة. واكتشفت ماذا فعل التعب بك، وتذكّرت كم عملت في حياتك، ومع ذلك فأنت وحيدة وحزينة كأن كل ما حققته حدث لامرأة اخرى لا تعرفينها ولا تربطك بها صلة.
يوم آلامك الأولى قالوا لك: مبروك صرت كبيرة. صدّقتهم وكبرت فعلاً دفعة أولى، حتى صرت عجوزاً في سنوات قليلة من دون أن تلاحظي. لكنّك اليوم فقط رأيت ذلك، رأيت العجوز التي كنتها منذ أعوام، المرأة العجوز الوحيدة التي كنتها، ثم انكفأت على نفسك وقررت في تعب شديد: لم يعد الأمر يستحق إذن...
هناك 10 تعليقات:
madame
il faut arrêter d'être triste.
Donnez nous de l'espoir.
إلى المجهول/ أو المجهولة
بعض الناس لا يتوقّفون عن العمل كي لا يتذكّروا أنّهم حزانى، بعضهم لا يتوقّف عن الضحك كي لا تغدر به الدمعة وتفضح حزنه. أنا اخترت مواجهة الحزن بالاعتراف به. وإن كان ثمّة أمل فهو في لحظة المواجهة هذه التي أدعو الجميع إليها
ماري القصيفي
إنّ طريقتك في مواجهة الحزن من خلال الاعتراف به ألا وهي تدلّ على أحاسيسك ومشاعرك وهو شيء جيّد لكنّني أنصحك ( كشخصٍ ذاق طعم الحزن) أن تنظري إلى الأفق البعيد فمهما داقت بالانسان الحياة فإنّ هنالك دوماً شعلة من الأمل تنير دربه وتفتح مغالق القلوب لذا عليك أن تبحثي عن هذه الشعلة وتتمسّكي بها لترتاحي
"Derriere les nuages, il y a toujours un ciel."
إلى علي/ شكرًا على متابعتك مدوّنتي وعلى كلماتك اللطيفة. لكن من المهمّ أن أوضح أنّ لحظة الكتابة لا تكون بالضرورة حالة عامّة ودائمة. فهناك لحظات شعريّة تغرف من الحزن وهناك غيرها تزغرد من الأمل.
إلى غير المعرف: عندما تزول الغيوم عندنا يبقى التلوّث
ماري أشكرك على ملاحظتك ومن هذه النّاحية الحقّ معك وأنا أحترم رأيك كما أرجو منكم جميعاً متابعة مدوّنتي كما أتبع مدوّناتكم :)
الحزين أنه يوجد دائماً من يريد تغيير القلم الحزين إلى قلم سعيد.. لم أستطع سوى الوقوف أمام جمال ما تكتبين.. بهذه البساطة التي تجمّل الواقع حتى في حزنه
اشكر لك رأيك، لا الحزن يدوم ولا الفرح. لولا هذا ما احتملنا الحياة. الفرحون في شكل دائم مزعجون والحزانى في شكل دائم مزعجون.
شخصيًّا، يريحني أن احزن عندما أحزن وأن أفرح عندما أفرح
انتي رائعة ماري
أنا استمتع بكتاباتك وهو نقل رائع من انسانة راقيةهي العاشقة ،السيدةالحزينة وبنت عائلة عاشت ظروف استثنائية
اعشق اشبهك كدمعتين 😊😊😊
تكتبين اشياءا تجول في خاطري
بالله عليك، أتعيشين فيّ، في نبضاتي، في حياتي... أم أنّ الألم بات حقيقة مطلقة؟
إرسال تعليق