فتّشت طويلًا عن صورة التقطناها لعمّو
جورج صوما من أمام بيتنا، ولم نجدها. غريب كيف أنّ الصور الورقيّة لا تضيع، بينما
تضيع منّا صور محفوظة في ذاكرة الكاميرا أو الكمبيوتر.
هو في تلك الصورة يشبه هذا العجوز
المتّكئ على عصاه. فالتي التقطت الصورة له، ولم أعد أذكر من مِن بنات شقيقتي
سميرة، اتّخذتها له من الخلف، وهو في نزهته اليوميّة قرب مزار مار الياس في وسط
ساحة الريحانيّة: يد على العصا، يد خلف ظهره، وسترته العسكريّة تحميه من لفحات برد
ما عاد جسمه يحتملها.
اسمه جورج، أهلنا ينادونه
"أبو بسّام"، نحن نناديه عمّو صوما، ربّما لأنّ كثرًا في الحيّ كانوا
يحملون اسم جورج، فميّزناه باسم عائلته.
كان عمّو صوما عسكريًّا
بسيطًا، وكانت أحلامه بسيطة. لم يكن بطلًا في معركة، ولم يكن يريد أن يغيّر العالم.
لكنّه لسبب ما، ومن دون أن يدري أو يخطّط أو يقصد، صار رجلًا له شأن، وغيّر حياة
عائلته. كيف؟ كان لائقًا لطيفًا مع زوجته، وأحسن تربية أولاده وكان جارًا خدومًا
لا يرفض طلبًا، مبتسمًا لا يؤنّب ولدًا ولا يشتم كبيرًا، كريمًا بابه المفتوح،
يدعوك للزيارة لتكتشف أنّ البيت الصغير يتّسع لضيوف كثيرين، وركوة القهوة تكفي
وتفيض.
وكان يكفي أن يصاب عمّو
صوما بالمرض الذي أقعده طويلًا، كي نعرف كيف عامل زوجته وأولاده وأحفاده، فحين لا
يتركونه لحظة واحدة بمفرده، نعلم كيف كان إلى جانب كلّ منهم، وحين يخشون عليه من
الموت ولو كانوا يعرفون أنّ الموت يريد انتشاله من بينهم، نعرف كيف أنّ المرء لا
يصير ثقيل الحِمل على أهل بيته إلّا متى خلا قلبه من المحبّة... وأعرف جيّدًا أنّ
عمو صوما ما شعر يومًا بغير المحبّة.
في السنة التي فقدنا فيها
عمّتي إميلي، وخاليّ سليم وميلاد، وجار الرضا نعمان حرب، وزوج عمّتي روزالي، رحل
أبو بسّام ليكمل دقّ الطاولة أو لعب الورق مع جيران سبقوه. وحين أعود لأكتب عن
وجوه ترحل من الريحانيّة فلكي أجدّد عهد البكاء على بلدتي التي تنطوي صفحة بعد
صفحة مع رحيل أبنائها وساكنيها. فأن تقيم في ريحانيّة ذلك العهد الذي أتى فيه عمّو
صوما ليقيم بيننا، فذلك يعني أنّك صرت من الريحانيّة وأنّ الريحانيّة صارت منك.
وأن ترحل عنها فذلك يعني أنّّ ريحانيّة جديدة تتكوّن، لا نعرف، في خضّم السرعة
التي تنهشنا فيها الحياة، إن كنّا سنجد الوقت بعد فيها لتذكّر جار أو حتّى لزيارته.
الريحانيّة اليوم تشارك
في جنّاز الأربعين لعمّو صوما، لكنّي حين أقف أمام بيتنا، أراه، كما في تلك الصورة
الضائعة، لا يزال هنا، يمشي بخطوات بطيئة أمام مزار مار الياس، ومن وقت لآخر تلحق
به زوجته إم بسّام لتطمئنّ إلى أنّه لم يبتعد، ولم يقع. لكنّها في قرارة نفسها
تعرف أنّ عيون أهل الريحانيّة عليه، ولن يتركوا الرجل الطيّب يتعرّض لمكروه.
في الليلة التي قضى فيها
عمّو صوما، كانت زوجته وحدها معه. لم يكن الوقت تجاوز منتصف الليل، لكنّها، بهدوء
المرأة الحكيمة الساهرة التي ذاقت مرارة فقد شقيقين شابّين، لم توقظ أهل الحيّ
بصراخها وعويلها، اتصلت بأولادها الذين غادروا قبل قليل، طلبت منهم العودة بهدوء
كي لا يزعجوا الجيران، أتى الكاهن، أتت سيّارة الإسعاف، أخذوا الرجل الطيّب الميت
إلى المستشفى، أعدّوا أوراق النعي، علّقوها حيث يجب، وانتظروا الصباح. كلّ ذلك،
بهدوء وسكينة كانتا سمتَي حياة تلك العائلة مذ أتت لتقيم في الريحانيّة منذ أكثر
من خمسين عامًا.
موتى الريحانيّة أقرب
إليّ من أحيائها.
ربّما لأنّهم، حيث هم
الآن، صاروا يعرفونني جيّدًا، ويفهمونني أكثر.
.ربّما لأنّ الريحانيّة لا مدافن فيها، بل ينقل أهلها إلى بعبدا ويعود ساكنوها إلى قراهم
ربّما لأنّني أراهم، وحدي
أراهم، كلّ ليلة يجتمعون في ساحة البلدة، حين تخلو البلدة من السيّارات، وتعود إلى
سابق عهدها البريء: السكائر في أيدي من كانوا يدّخنون، ومن كان يرتجل أبيات الزجل
لا يزال على عادته في تكرارها، والنساء الخجولات لا يزلن على عهدهنّ، وكلّهم يبتسمون تلك
الابتسامة التي تطمئن إلى أنّهم سعداء، وإلى أنّهم لن يغيبوا.
هناك تعليق واحد:
ما أروع صفحات تاريخ الريحانية بقلمك!
إرسال تعليق