تحت قَدَر
المناخ
لا يشكّل لبنان إلّا ذرّة
متناهية الصغر على خريطة الكرة الأرضيّة، لكنّ مناخه وطبيعته يشكّلان عاملًا
بارزًا في جغرافيّته واجتماعه البشريّين، كما في أشكال التعبير الأدبيّ والشعريّ،
إضافة إلى الفنّ التشكيليّ. فالأدب اللبنانيّ الحديث الذي تكوّنت ملامحه في نهايات
القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تحضر فيه الطبيعة اللبنانيّة الجبليّة
الريفيّة حضورًا طاغيًا. حتّى أنّ هذه الطبيعة تحوّلت معينًا لا ينضب لتميّز لبنان
عن محيطه الواسع. ومن جبران خليل جبران إلى شوقي أبي شقرا، ومن مارون عبّود إلى
فؤاد سليمان إلى فؤاد كنعان، تحضر الطبيعة والجغرافيا البشريّة كعنصر لا يغيب عن
التعبير الأدبيّ. وقد يكون هذا التساؤل عن هذا العنصر وتحوّلاته في النتاج الأدبيّ
والشعريّ اللبنانيّين مدخلًا مفيدًا لقراءة هذا النتاج. أمّا الظاهرة المناخيّة اللبنانيّة
فشأن يتّصل اتّصالًا عضويًّا بالمناخ المتوسّطي، والعالميّ، وفي الخريف المنصرم
احتبس المر احتباسًا أخاف كثرة من المراقبين من الجفاف. انطلاقًا من هذه المعطيات
المتباعدة يقدّم "الملحق" قراءة جزئيّة متشعّبة لأثر الطبيعة والمناخ في
الأدب اللبنانيّ، وللظاهرة المناخيّة على صعيد الكرة الأرضيّة، وللمناخ في حوض
المتوسّط كما عرضه المؤرّخ ترناند بروديل في كتابه الكبير "المتوسّط والعالم
المتوسّطيّ في القرن السادس عشر"، وللعاصفة التي ضربت فرنسا أخيرًا.
(ملحق النهار)
***
جغرافيا
الروح في الأدب اللبنانيّ
هيّا معي
من لبنان من وكر النسر الشاهق
ماري
القصّيفي – الملحق- السبت 15 كانون الثاني 2000
(1)
"عندما كنّا صغارًا كان الصيف عطلة. كان البحر وكان الجبل.
...عندما كنّا صغارًا كان الشتاءز
وعندما كنّا صغارًا كان هناك فصول... كان الانتظار الكبير هو
انتظار العطلة. عطلة العنب والتين والصنوبر وشيطنات العشيّة، عطلة الينابيع والأنهار
والتربّص الفاشل بالعصافير... عطلة الألف مستحيل ومستحيل كلَّ سهرة حتّى الفجر،
عطلة الزعتر ورائحة القمر...".
هكذا كان لبنان، وهكذا وصفه أنسي الحاج في مقالة بعنوان
"غدًا في عرسك من جديد" (كلمات كلمات كلمات 14 آب 1974)، ثمّ جاءت
الحرب، وصار لبنان مفردًا "كشمعة في الظلام وسط العواصف، كأقحوانة بين
الخيول، كغصن زيتون في غابة الزعرور".
يختصر كلام أنسي الحاج في هذا النصّ تاريخ لبنان وجغرافيّته:
تاريخ الحروب والظلام في طقس متعدّد الفصول وغنيّ التنوّع وشهيّ الجمال. وهنا، في
هذه الجغرافيا الملوّنة، وضمن هذا المناخ المعتدل وُلد الأدب اللبنانيّ، ونما
حاملًا بين سطوره عطور الأرض وألق الكواكب والنجوم، وأصوات الرياح والعصافير
والأنهار. وهكذا غذّت الطبيعة اللبنانيّة، على اختلاف وجوهها، الأدب اللبنانيّ
حقيقة ومجازًا، وشكّلت خلفيّته إلى زمن قريب، هو إلى تحوّل ورمزيّة وذكرى. وأنسي
الحاج الذي يربط الطبيعة اللبنانيّة بعمر الطفولة والبراءة، اكتشف، واكتشفنا معه
كيف إنّ الحرب قضت على كلتا الصورتين. ومع العمر الهارب وتغيّر الصورة كان لا بدّ
لهذا المناخ المعتدل أن يجنح نحو التطرّف، التطرّف في كلّ شيء، ولهذه الطبيعة
الغنّاء أن تتصحّر بفعل مجموعة من العوامل، لا شكّ أنّ السياسة أهمّها. وبعدما
كانت الجغرافيا تفرض نفسها على الإنسان، وتترك آثارها على حياته وأسلوب عيشه ولغته
ومختلف وسائل تعبيره، صارت هي ضحيّة الإنسان الذي أساء إليها وشوّه جمالها ووقف
يبكي أمام أطلالها متذكّرًا متحسّرًا.
حين بدأ الأدب اللبنانيّ يتّخذ سماته الخاصّة، كانت الطبيعة
البكر تفرض نفسها على موضوعاته وأسلوبه، حتّى صعب على كثير من اللبنانيّين التفلّت
من سيطرتها عليهم وإن هاجروا وابتعدوا عنها. ولعلّ الزجل اللبنانيّ، منذ مرحلته
البدائيّة، زمن التحوّل من السريانيّة إلى العربيّة، هو المثل الأوّل الدالّ على
ارتباط هذا النوع الأدبيّ بالمحيط الجغرافيّ وعوامله المناخيّة، وبخاصّة أنّه قد
انطلق من منطقة الشمال، الوعرة المسالك، الحادّة المناخ، ذات الرياح الباردة
والتناقضات الصارخة بدءًا من أكثر قممها شموخًا وأعلى قرية مأهولة فيها (بقاعكفرا)
انحدارًا إلى أكثر أوديتها عمقًا وتواضعًا. وإذا كان من الصعب أن نحيط بهذا الشعر
الزجليّ المتأثّر بالجغرافيا، فلعلّ من الممتع أن نشير إلى زجليّة تُنسب إلى
القدّيس شربل، بحسب الشاعر والناقد أنطوان القوّال (ذُكرت في مقالة لطوني جبرايل
فرنجيّة (جريدة النهار، 7 آذار 1997)، يصف فيها شربل وكان له من العمر اثنا عشر
عامًا، مطرًا قويًّا جرف البيوت والبساتين
طوفة جرفت الوادي
وما خلّت حيط هادي
العالم تصرخ وتنادي
يا الله شو هالصورة
وبعدما وصف وصول الطوفان إلى القرى المجاورة فإلى البحر قال:
البحر صار معكور
وموجو يعلا ع الفصول
لو تبقى مدّة وتطول
ما بقي ولا شختورة.
(يتبع)
2
في حفلة تكريم الشاعر موسى
زغيب ومنحه وسام الاستحقاق اللبنانيّ 1975) قال فاضل سعيد عقل إنّ عمر الزجل من
عمر لبنان الحضاريّ، عندما أفاق لبنان على حقيقته ووعى وجوده. منذ ذلك الوقت إذًا
صار الزجل صورة لبنان، إن في سعيه إلى الحريّة أو في اتّحاده بالأرض والمناخ والقرى.
ولعلّ هذا النوع من الشعر، تلاه الشعر العاميّ، هما أوّل تعبير وأكثره عفويّة عن
شدّة الانصهار بين الجغرافيا والأدب. فمع ميشال طراد من السهل أن نرى صنّين
والكروم وأنواع الزهور، ومع طلال حيدر ننطلق في السهول ونكتشف الشمس والرمال
والخيول، ومع أسعد السبعلي تمرّ الفصول الأربعة وتعصف الرياح وتجلو صفحة السماء. فيقول
منصور الرحباني عن شعر السبعلي في مقدّمة ديوان "طلّ الصباح":"أسعد
وفصول الطبيعة الأربعة ما بيفرقو عن بعض...نضارتو إنّو إبن الأرض اللبنانيّة اللي
بتضلّ نضارتها تتجدّد، وأهميّة شعرو إنّو الكلام فيه بسيط بساطة الزنبق ومنجيرة
الراعي". والكلام نفسه يصحّ على شعر سعيد عقل والرحبانيّين ومارون كرم وعصام
العبدالله وسواهم من أهل الشعر اللبنانيّ. يقول ميشال طراد في ديوان "وردي
بإيد الريح":
بين الضباب
شو سارقا
الحلوايي
من هاك الجرود
وهي مارقا
دغوش الغياب،
بعبّها الزعرور والعنّاب
وعيّطوا عليها
الزنابق والورود
وهو بذلك يعطي تفصيلًا (لوصف
المرأة) من لوحة جداريّة كبيرة، تظهر الجرد اللبنانيّ والطقس الضبابيّ وتنوّع
النبات والزهر. ويقابل هذا الكلام كلام لطلال حيدر يعطي تفصيلًا آخر:
واقف على سهل البقاع
ملتّم بشمله
بصرّخ
وصوتي ضايع
وقالوا الهوا قِبلي (ديوان
آن الأوان)
أو:
كان الطقس سهيان
ما بباله حدا
متل اللي قاعد ع الهوا
يتذكّر النسيان.
بعد "صنّين" ميشال
طراد، و"بقاع" طلال حيدر، و"شمال" أسعد السبعلي القائل في
ديوانه "يا بو جميل":
الوزّال فتّح والحفافي زهّرو
وع الغصون اللوز عقّد جوهرو
وفلّاح عم يحلم بموسم هالسني
حضّر المورج، ومهّد بيدرو
وعاجق الوديان صوت المطحني
من غبارها الطحّان وجّو
مبودرو...
يأتينا "جنوب عصام
العبدالله القائل في "سطر الرمل":
جايي ت همّ النخل
بينقّط بلح
شايف متل ساحر سَحَر
دمّ الرمل سكّر
جايي
ت شعّل تحت شعر المملكي
نار الصور.
3
لا شكّ أنّ الشعراء
المهجريّين قد تزوّدوا هذه المشاهد، وهم أبناء القرى وحملة مزاجها الخاصّ، إلى
درجة أعمتهم عن رؤية البيئة الجديدة التي وصلّوا إليها وأقاموا فيها طويلًا وعجزوا
عن التفاعل معها. وقد أشار إلى هذا الأمر الكاتب أنطوان الدويهي في حديثه إلى
"الملحق". فهو قد سجّل على المهجريّين عدم انغماسهم في الطبيعة الجديدة
التي أحاطتهم، بل بقيت طبيعة لبنان وجغرافيّته الخافيّة الوحيدة، وهذا ما لم يفعله
الدويهي، الغارق في مناخ لبنان الشماليّ، كما في بحيرات المدن التي زارها ومرافئها
وسهولها والمحيطات. يصف "آنا" في "حديقة الفجر": الضباب الذي
يرتفع من الوادي المقدّس، وخصوصًا في بدء الصيف ونهايته، فيغطّي في لمح البصر كلّ
شيء، باستثناء "جبل الحصن" بحيث يخيّل للناظر منه، أنّه أصبح أنّه خارج
الحياة الأرضيّة، وأنّه يقف فوق غيوم السماء مثل القدّيسين في صورهم". ولكنّ
الكاتب نفسه يعود ليتساءل عمّا خلق الاضطراب في علاقته بطبيعة بلاده، ويحاول أن
يجيب عبر تساؤل جديد: هل هي الأبنية المشوّهة، أم ابتعاد الناس عن الحياة
الداخليّة وانصرافهم إلى الخارج الصاخب، أم تجزّؤ هذه الأرض على طوائف وعشائر، أم
هي الحرب واحتمالات فقدان الحريّة؟
هذا الشمال حمله جبران خليل
جبران معه إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، بهوائه وعواصفه وثلوجه ووديانه
وأشجاره وأنهاره، وغاب كلّ منظر آخر، إن في أميركا أو في فرنسا، وإذا كانت جغرافيا
لبنان في أدب جبران موضوعًا قائمًا بنفسه ويحتاج إلى دراسة مفصّلة خاصّة فإنّنا
نكتفي بقصيدة "المواكب" دليلًا يشير إلى مناخ لبنان وفصوله وتنوّع
جغرافيا هذا الوطن، على صغره، أو مجموعة "العواصف". وقد تختصر مقدّمة
نصّ "الأرملة وابنها" من مجموعة "دمعة وابتسامة" خريطة الأرض
التي مات جبران وهو يحلم بالانصهار والذوبان في عناصرها: "هجم الليل مسرعًا
على شمال لبنان مستظهرًا على نهار تساقطت فيه الثلوج على تلك القرى المحيطة بوادي
قاديشا، جاعلة تلك الحقول والهضاب صفحة بيضاء ترسم عليها الرياح خطوطًا تمحوها
الرياح وتتلاعب بها العواصف مازجة الجو الغضوب بالطبيعة الهائلة. اختبأ الإنسان في
منازله والحيوان في مرابضه، وسكنت حركة كلّ ذي نسمة حيّة، ولم يبق غير برد قارس
وزمهرير هائج وليل أسود مخيف وموت قويّ مريع".
وكما انتصرت بشرّي على
أميركا انتصرت بسكنتا ميخائيل نعيمة على المدن التي زارها "ناسك
الشخروب"، وأقام فيها بدءًا من بيروت وصولًا إلى فلسطين وروسيا وانتهاء
بأميركا قبل العودة إلى جوار صنين، فيخاطب أهل بلدته "سلامكم هو أنفاس العزّة
القدسيّة المنبعثة من صخوركم وترابكم وأعشابكم، وتلك الجلبة (نيويورك، يقصد) هي تطاحن
المطابع والأهواء البشريّة في سبيل الريال. والاثنان لا يتزاوجان ولن
يتزواجا" (زاد المعاد، مقالة صنّين والدولار). ويتابع في المقالة نفسها، كما
في مجمل مؤلّفاته، وصف "العالم المسحور" الذي يحيط به من كلّ جانب:
الجبال والأودية والبساتين والكروم والحقول والعصافير والصخور، بخاصّة الصخور التي
أحاطت به في الشخروب بأشكال وأحجام متنوّعة. كلّ هذه المشاهد أبقت لبنان ماثلًا في
ذاكرة نعيمة وسواه من المغتربين. ونعيمة نفسه يؤكّد ذلك في مقدّمة مجموعة جبران
العربيّة فيقول: جبران الذي كان يؤمن أوثق الإيمان بالتقمّص ما كان يحسب ولادته في
شمالي لبنان مصادفة عمياء بل كان يعتقدها نتيجة لازمة لحياة سابقة. ففي تلك البقعة
الغنيّة بمفاتنها الطبيعيّة وذكرياتها الدينيّة ثروة من الجمال الذي لم يكن بدّ
لعين جبران من أن تكتمل به ولروحه من أن تستحمّ في بهائه". ويتابع نعيمة:
"فأنت تشتمّ طيوب لبنان، وتستشعر سحر أعاليه وأغواره، وتحسّ جماله وجلاله في
كلّ ما تقرأ لمؤلّف "النبيّ".
ورشيد أيّوب لا يشذّ عن سائر
المهجريّين، فهو في قصيدة "يا ثلج" يستعيد لبنان بكلّ تفاصيله، بمناخه
وأهله البعيدين: "ذكّرتني أهلي بلبنان".
4
الانحياز إلى الجغرافيا
بين التاريخ والجغرافيا،
انحاز الأدب اللبنانيّ طويلًا إلى الجغرافيا بمعنى أنّ المتغيّرات السياسيّة
والحروب وفقدان أجواء الحريّة، رمت الأدباء في أحضان الطبيعة، اتّحادًا بعناصرها
أو لأهداف رمزيّة، وكان ذلك أيّام النظرة الرومنطيقيّة إلى المرحلة، وقبل أن يصطدم
الجميع بالواقع. في 10 شباط 1974 كتب أنسي الحاج: "أحيانًا أسمعها تبكي جبال
لبنان. فهي لم تكن تتصوّر أنّها ستعيش لترى لبنانها ذات يوم هاربًا من
تاريخه". في تلك الأيّام كان لبنان فعلًا أمام متغيّرات مصيريّة، وصار وطن
الياس أبو شبكة وصلاح لبكي وفؤاد سليمان وسعيد عقل، على لاواقعيّته، حلمًا يتمنّى
الجميع تحقيقه. ولكنّه كان حلمًا، وكُتب على اللبنانيّين أن يستيقظوا منه، ولو
بعنف. لجأ هؤلاء الشعراء إلى الأرض وارتاحوا إلى ثباتها في ظلّ المتغيّرات التي
أحاطت بهم وأطاحت أحلامهم. كتب نديم عبّود في مقدّمة مجموعة الياس أبو شبكة إنّ الشاعر
التجأ "إلى الطبيعة لا ليهرب من واقعه فقط، بل ليتعزّى ويوهم نفسه بأنّه ليس
وحده إلى الزوال"، بل إنّ العناصر الأخرى التي يشهد رحيلها تذكّره بالهشاشة
التي هي مصير الكائنات. ولكنّ أبا شبكة لم يكتف من الطبيعة بهذا الجانب، بل رأى
فيها الوجه الآخر الذي يبحث عنه، فوجد في الأرض مصدر عطاء لا ينضب، لذلك رفض
مغادرتها ولم يبحث عن أرض سواها، بل كان شديد التعلّق بمنزله وبلدته، لا ينام
خارجهما مهما تأخّر الوقت، لأنّ الطبيعة عنده هي البيت الذي يحمي ويؤمّن الاستقرار
والثبات. لذلك أيضًا لم يعتبرها فعل خلاص خاصًّا به بل هي منقذة المجتمع لأنّها
الأمّ والأب والحبيبة، تغني عن كلّ حاجة وتداوي كلّ ألم وتعوّض عن أيّ نقص، أكان
ماديًّا أم معنويًّا. ويمثّل ديوان "الألحان" لالياس أبو شبكة خلاصة
نظرته إلى فصول الطقس والمغيب والمساء والقرية. أليس هو القائل في مقدّمة ديوانه
"أفاعي الفردوس": "وفي الطبيعة أسرار لا يدركها الحسّ مهما دقّ، بل
يشعر بها إذا قويت النفس. والنفس مهما قويت لا تستطيع قهر الطبيعة لاقتناص سرّها
اللطيف إلّا إذا تجرّدت من أدران هذا العالم وهذا مستحيل، لأنّ النفس عندما تتجرّد
من هذه الأدران تبلغ مستوى الطبيعة وذات الله".
إنّ "ألحان" الياس
أبو شبكة خريطة تامة العناصر تجتمع فيها الحقول والسهول والجبال والعيون والأشجار
والرياح: "حقولنا سهولنا/كلّها طرب/ كلّها غنى"، "جبالنا نحبّها/
هذي العيون قلبها/ هذي الجنان خصبها"، "عادت المزن إلى الأرض وباح/
بالأعاصير وبالثلج، الجبل"، "فجّر البرق من الليل جراح/ سقت النبع
زلالًا فجرى"، "عد يا حبيبي، عاد القطيع وغامت الدور والمغاني/ وانقل
لقلبي من الربيع، ما حدّث العطر والأغاني"، "أقبلَ الصيف وألقى في
البطاح، رحله/ قوّنا يا رب واجعلنا صحاح، مثله".
5
لعلّ انصهار الشاعر بالمحيط
البيئيّ الذي هو فيه، اختصره سعيد عقل في مقدّمة ديوان "سأم" لصلاح
لبكي: هو من عندنا هذا الشاعر، وأدبه من عندنا، لأنّ هذا الشاعر "أخ للطِيب
والليل والربوة وهدير الموج". فالمناخ في لبنان وطبيعة الأرض قدّما للأديب،
أيّ أديب، مجموعة من المشاهد الحيّة تتلاحق بسعة وتنوّع، فكان له منها المادّة
الأولى التي اعتصرها بكاملها واستفاد من خصائصها في مختلف الموضوعات التي عالجها.
وإذا كانت هذه الطبيعة قد ألهمت غير اللبنانيّين، من عرب وأجانب، فكيف الحال مع
الأديب اللبنانيّ وهو المتّحد قلبًا وقالبًا بهذه الجغرافيا؟ ففي الغزل، تحمل
المرأة عناصر الطبيعة وقسوة المناخ حينًا أو رقّة النسائم وشموخ الجبال وتساهل
السهل حينًا آخر، حتّى أنّ الأناشيد الدينيّة والتراتيل والصلوات صارت تحمل سمات
هذه البيئة الجغرافيّة الخاصّة، كيف لا ونشيد الأناشيد في حدّ ذاته مصدر إلهام
لكثير من الشعر والترانيم، صورة عن بيئة غنيّة خصبة، فنجد في إحدى التراتيل عن
مريم العذراء الصورة التالية:
هيّا معي من لبنان/ من واديه
/ من وكر النسر الشاهق
هيّا معي من لبنان / من
أفياء الأرز التيّاه العابق
وفي ترتيلة أخرى: يا أمّ
جولي / ملء الربيع/ بين الحقول / بين الربوع
أو: يا مريم / سلطانة الجبال
والبحار.../ يا عذراء ضارعت نقاوتها ثلج لبنان/ وفاح عطر طهرهع كعرف زهور لبنان،/
وتسامت كالأرز في لبنان.
وجغرافيا لبنان فرضت كذلك
على التراتيل والصلوات الموضوعة حديثًا أو بالمحكيّة اللبنانيّة. ولهذا فكثيرًا ما
نجدها عند الطائفة المارونيّة، التي بخلاف غيرها من المذاهب والطوائف لا تكتفي
بالموروث المتوارث، ربّما بسبب ارتباط تاريخ نشأتها بهذه الأرض، بل بجزء منها (جبل
لبنان وشماله)، وهذا ما جعل واضعي هذه الكلمات ينحون هذا المنحى. ففي ترتيلة
للقديس مارون باللهجة اللبنانيّة نقرأ:
ولبنان أرزو وأشبالو / بسهلو
وبحرو وشمالو
وفي ترتيلة لمار شربل نجد:
قدّيس من عندنا / من شهقات
الأرز / من صخر الصوّان
وفي أخرى للقديسة رفقا:
من دير جربتا الهادي / بين
التلّه والوادي
6
في الضفّة الأخرى لنهر الأدب، تبدو
الجغرافيا في القصّة والرواية موزّعة بين مكانين: القرية (الريف والجبل) والمدينة
(بيروت طبعًا). وفي حين ازدادت حركة النزوح من الجبل إلى المدينة، كان الأدب
اللبنانيّ في أكثر إنتاجه، ينمو في اتّجاه الدفاع عن القرية على أنّها عالم
البراءة والطهر والجمال والقداسة. أمّا المدينة فهي عالم الخطيئة والدنس والهزيمة،
وكلّما ازداد الإنسان قربًا من نفسه ومن الآخرين في القرية، كانت المدينة في
المقابل تبعده عن كلّ ما هو جميل ونظيف، لترميه في متاهات السياسة والصراعات
الأيديولوجيّة والطائفيّة والطبقيّة.
غير
أنّ بعض الأدباء رفض هذه الفكرة، واعتبر أنّ بذور الشرّ تولد وتنمو في القرية ولكنّها
تثمر في المدينة، لذلك ارتبطت المساوئ بها. ومن هؤلاء توفيق يوسف عوّاد في مجمل
نتاجه - حتّى في "طواحين بيروت" - وفي الأخصّ في "المقبرة
المدنّسة" من مجموعة "الصبي الأعرج"، وهي قصّة امرأة يعتدي عليها
مختار قريتها (رمز السلطة السياسيّة) المعترف بفعلته لخوري الضيعة (رمز السلطة
الدينيّة)، فهربت إلى بيروت حيث دفع البائع اليهوديّ ثمن جريمة الاعتداء على شرف
الضيعة (دائمًا الحقّ على اليهود!). ومن هؤلاء الأدباء كذلك فؤاد كنعان الذي يرى
الشرور في القرية والجبل أيضًا، والشاعر عصام العبدالله القائل في إحدى المقابلات:
"غربة المدينة أن يتعارف الغرباء وأن ينسجوا معًا علاقات جديدة أكثر جدّة
وأهميّة من أنّ ابن العمّ يعرف ابن عمّه مثلما هي الحالة في القرى"، ويتابع
"غير صحيح أنّ الغربة غير منيحة دائمًا، قد تكون صنعتنا أحلى" ("النهار"،
23 حزيران 1994). إلّا أنّ كثيرين آخرين حافظوا على ولائهم للقرية، وإن رفضوا
الإقامة فيها، وهاجموا المدينة بعنف يشبه إلى حدّ غريب أطنان القنابل والقذائف
التي هدمت هذه المدينة/ العاصمة ووزّعت
"شرورها" على مختلف المدن والقرى في عدوى سريعة الانتقال والانتشار.
في
مقابل النزوح الأوّل، كان لا بدّ، مع الحرب، من هجمة مرتدّة تقوم بها المدينة في
اتّجاه الجبال. وقد أثمر ذلك طبعًا تغيّرًا في المشهد الجميل السابق، فتمدّنت
القرى، وتغيّرت رموزها، وزالت قممها بفعل المقالع والكسّارات، وتبدّل الطقس،
والثلج الذي كان في كتابات جبران قاسيًا مخيفًا صار منتجعًا لذوي اليسار الأثرياء،
وما عاد الإنسان يتجذّر في عمق الثلج حين يمشي عليه، بل صارت المسطّحات التي
ينتعلها المتزلّج تسمح له بالانزلاق بسهولة تنقذه من صحوبة الحركة، إذ يبدو أنّ
"السطحيّة" إنّ في الأقدام أو في الرؤوس تنقذ الإنسان من أخطار شديدة.
هذا الثلج الذي تأخّر في مسرحيّة "أيّام فخر الدين" للأخوين رحباني،
ولولا تأخّره لما انتصر الكجك أحمد والعثمانيّون على الأمير اللبنانيّ، هذا الثلج
صار مطلبًا ليكون خزّان الأرض، وكي لا يصير عيد الميلاد صيفيّ المظاهر لا تتلاءم
معه الأغاني الرحبانيّة التقليديّة: تلج تلج/ عم تشتّي الدنيي تلج، أو جايي التلج
يزورنا/ ويغزل ع سطوحنا سطوح/ جايي يزور زهورنا/ بتيابو البيض ويروح.
إنّ
جغرافيا الأرض اللبنانيّة متنوّعة المشاهد. فمن الجبال العالية إلى الأودية
السحيقة، من المدن المكتظّة بالسكّان إلى القرى والسهول شبه الخالية، من أطراف
هادئة إلى وسط صاخب، كلّ ذلك ترك آثارًا واضحة على الأدب اللبنانيّ، ففي حين غرقت
كتابات المدن في واقعيّتها ومآسيها السوداء، مالت كتابات الأطراف إلى روحانيّة
شفّافة هادئة ومستسلمة إلى أقدارها، أو إلى تأمّلات صارخة بآلام البشريّة ومخاوف
الإنسان.
7
تشابهت الصور في كلّ مكان،
تُكرّر وتستعاد، وإن ظهرت عناصر المناخ من شمس وهواء وقمر فكرموز لما هو أبعد،
وعاد التاريخ ليحتلّ المكان الأبرز بعدما توحّدت جغرافيا المدن والقرى مع تشابه
وجوه المقاتلين وتصرّفاتهم. أصبح الفعل وردّ الفعل هما بطلَي هذه الكتابات، أمّا
الإطاران المناخيّ والجغرافيّ فما عادا يعنيان أحدًا إلّا إذا أشارا إلى هويّة
الفاعلين المنفعلين، أي إلى انتماءاتهم الحزبيّة والطائفيّة أو إلى أهميّة
الجغرافيا على الصعيد الاستراتيجيّ وبما يتلاءم مع سير المعارك.
في أدب الحرب، غاب الضوء والنور، فبدا أكثره مظلمًا قابعًا في
عتمة الملاجئ والمصحّات والأنفاق. وصار التساؤل الشائع: أما من ضوء في نهاية نفق
الدمار هذا؟ وأثار المطر شعورًا بالتشاؤم والحزن لا بالخير والبركة، أمّا الأعشاب
فارتبطت بالمنازل المهجورة والشوارع المتروكة للكلاب الشاردة، وكم كثُر ذكرها في
روايات الحرب! والأزهار أمست تُطلب للأكاليل الموضوعة فوق أضرحة الشهداء والضحايا.
في رواية "الظلّ والصدى" ليوسف حبشي الأشقر، المدينة
والقرية تشابهتا. فالحرب ألغت الحواجز والفوارق، وإن كثرت حواجز المسلّحين. لقد
صار الجميع أمام خوف واحد وهدف واحد "الشجاعة والهرب ليسا نقيضين، إنّهما
ميزتان موضوعيّتان. المهمّ عند الإنسان أن يخلص من خطر ما، إمّا بالتغلّب عليه، أو
بالهرب منه" (ص 41). ولكن بيروت أعطت البحر. بهذا تميّزت عن الجبل، وحين نظر
اسكندر، بطل الرواية، إليه، لاحظ أنّ البحر يخرج من عينيه وكذلك الجنينة والبيت
ومحتوياته والمرأة والأصدقاء والقرية كذلك (كفرملّات). وخلص إلى أنّ كلّ شيء
انعكاس الذات وليست الذات انعكاس الأشياء. في هذا المعنى صارت جغرافيا لبنان
انعكاس الذات اللبنانيّة، أصاب الأولى ما أصاب الثانية من دمار وتشويه وجفاف. لقد
رُدمت الوديان وهُزمت المرتفعات، وصارت الأرض سهلًا يسهل على الجميع عبوره. وما
تعلّمه التلاميذ في المدارس أضحى تاريخًا سحيقًا، إذ ممنوع بعد الآن على جبال
لبنان أن تكون ملجأ لأيّ كان. وهذه الخصوصيّة التي تغنّى بها الأدباء والشعراء يجب
أن تكون طللًا نقف أمامه...ونضحك على أنفسنا.
في كتابات الحرب، صارت عناصر المناخ والجغرافيا رموزًا فقدت
أرضيّتها الواقعيّة. فالمعارك غيّرت المعالم وأطاحت الأمكنة، أحرقت وحطّمت ولوّثت،
فأمسى الشتاء شتاء القذائف المنهمرة، والخريف خريف الأحزان والمآتم، والربيع موسمًا
يتجدّد فيه القتال يقصف ربيع الأعمار، والصيف هو حريق القصف ولهيب المعارك. وبات
الخارج لا يعني أحدًا إلّا بمقدار ما يكون هذا الخارج هو الشارع الخالي إلّا من
القناص، أو الحائط الممتلئ صور وجوه غابت، أو المنازل المنخورة الباردة المتروكة
إلى مصيرها. في كتابات تلك المرحلة بقيت السماء رماديّة أو سوداء ترمز إلى الموت،
وجفّت مياه الأمهر دليل قحط ويباس، وصخب البحر احتجاجًا، واختفت العصافير هربًا.
8
إنّ نظرة سريعة إلى بعض العناوين تكشف كيف إنّ جغرافيا
لبنان، طبيعة ومناخًا، حاضرة في الأدب. فمن شتّى المناطق (الشوف، الجنوب، البقاع،
المتن، كسروان، الشمال، بيروت...) وعلى امتداد زمن طويل، وعلى مختلف المستويات
الأدبية، تتلاحق عناوين الكتب معبّرة عن
طقس صاف تبدو فيه الكواكب والنجوم، أو عن مياه تتجدّد فيها الحياة أو تغرق فيها
الشرور كما في زمن الطوفان أو عن حدائق تتلوّن فيها الأشجار والنباتات... ففي
الفصول والمناخ نجد: "الفصول الأربعة" لعمر فاخوري، "ليل
الشتاء" ليوسف حبشي الأشقر، "اعتدال الخريف" لجبّور الدويهي،
"حين حلّ السيف على الصيف" لرشيد الضعيف، و"طيور أيلول"
لإميلي نصرالله وسواها كثير.
وعن المياه نجد على سبيل المثال: "الرسولة بشعرها الطويل
حتّى الينابيع" لأنسي الحاج، "على أنهار بابل" لفؤاد كنعان"،
"أنهار بريّة" لفؤاد رفقة، "ماء إلى حصان العائلة" لشوقي أبي
شقرا، "البئر المهجورة" ليوسف الخال، "أغنيات حبّ على نهر
الليطاني" لشوقي بزيع، "الينبوع" لإملي نصرالله، "رمل
وزبد" لجبران خليل جبران، "ريّا النهار" لجبّور الدويهي،
"ماحيًا غربة الماء" لعقل العويط، "حارث المياه" لهدى بركات.
وعن الكواكب والنجوم تطالعنا عناوين: "باب الشمس"
لالياس خوري، "أكنس الشمس عن السطوح" لحنان الشيخ، "طائر من
القمر" لليلى عسيران، "درب القمر" لفؤاد سليمان، "أرجوحة
القمر" لصلاح لبكي، و"نجوم الظهر" ليحيى جابر.
وعن الحدائق وما فيها نجد: "حديقة الحواس" لعبده وازن،
"حديقة الفجر" لأنطوان الدويهي، "حدائق العشق" لديزيره سقّال،
"وردة الندم" لشوقي بزيع، "تلّة الزعرور" لشكيب خوري،
"أجراس الياسمين" و"كتاب الورد" لسعيد عقل، "العوسجة
الملتهبة" ليوسف غصوب، "مقام السروة" لعقل العويط، و"أوراق من
شجرة الرمّان" لمي منسّى، وغيرها ممّا لا مجال لحصره.
وعن سواها من عناصر الأرض نجد: "البيادر" وكرم على
درب" و"كرم على درب" لميخائيل نعيمة، و"الجبل الصغير"
لالياس خوري، و"لا تنبت جذور في السماء" و"الأرض القديمة"
ليوسف حبشي الأشقر، و"بيادر الجوع" لخليل حاوي...
إنّ هذه النماذج – ولا ندّعي
القدرة على الإحاطة بكلّ ما كتبه الأدباء اللبنانيّون – لكافية لتأكيد ما أشرنا
إليه عن أثر الجغرافيا في الأدب اللبنانيّ.
9
البحر
العاجز
ولكن ثمّة نقص ما، فكيف عجز هذا البحر الممتدّ على مسافة
طويلة من أن يدخل كبطل في الأدب اللبنانيّ. فالأشجار والجبال والوديان والسهول
والأنهار موجودة في شكل طاغٍ، أمّا البحر والصيّادون والمراكب والأشرعة فإطلالاتها
خجولة وحيّية. ونشير في هذا السياق إلى المسلسل التلفزيونيّ الذي تألّق فيه
الفنّان شوشو، "المشوار الطويل"، فلربّما هي المرّة الأولى التي تجري
فيها أحداث قصصيّة في مدينة بحريّة وبين المقاهي والمراكب، وكان فيها البحر البطل
الأوّل. غريب فعلًا أن تكون واجهة لبنان البحريّة معبرًا إلى الانتحار أو السفر
فقط، كما كتب رشدي المعلوف. ولا نستفيد من البحر في الثروة السمكيّة ولا في
السياحة مع تعدّي المعتدين على شواطئنا واحتلالها وتشويهها، ولا في الأدب أيضًا،
وحين يدخل البحر بطلًا كما في "المشوار الطويل"، تكون القصّة مقتبسة
وملبننة. فلماذا بقي الأدب اللبنانيّ بعيدًا عن البحر؟ وإذا أشير إليه ففي شكل
عابر وعرضيّ لا كهدف مقصود، أي كمكان تغيب عنده الشمس. حتّى الفنّ الرحبانيّ لم
يشر إلى البحر إلّا نادرًا كما في أغنيات: هيلا يا واسع، شايف البحر شو كبير،
مراكبنا ع المينا...
هناك احتمالان، فإمّا أنّ اللبنانيّ يكره البحر ولم يستطع أن
يتآلف معه، لأنّ جذوره تعود إلى الداخل، وإمّا لأنّ الجبل كان المكان الآمن
بمغاوره ووديانه، في حين كان البحر مفتوحًا أمام الغزاة والطامعين. ولكن أين ذهب
الشعب الكنعانيّ ابن البحار ومقتحمها ومروّض أمواجها؟
لم يذكر البحر والصيّادون إلّا مع أدباء الجنوب غالبًا، حين
ارتبط الحديث عنهم بالمقاومة والاحتلال والحصار البحريّ، وحين صارت المراكب عرضة
لإطلاق النار، وأرواح الصيّادين على أكفّ عفاريت البحر والاحتلال والجوع.
أمّا البحر والشاطئ والمسبح فأماكن لم يتحدّاها الأدب لذاتها،
وكأنّ العري الجسديّ المفروض على الأديب في هذا المكان المعلن والعام يجعله
متساويًا في الشكل والجوهر مع الآخرين. هناك يراقِب ويراقَب في الوقت نفسه،
فـ"تتعطّل لغة الكلام" أو كأنّ
"الكلام المقدّس" لا يجوز أن يجتمع مع الرمل والمايوهات وزيوت
الاسمرار. صحيح أنّ الأدب اللبنانيّ قد تعامل مع العري بجرأة وصدق في غالب الأحيان، ولكن على الشاطئ
يصير العري حال عامّة، يراها الأديب مثلما يراها الآخرون، فتنتفي العلاقة الخاصّة
معه، عدا أنّ الأديب شريك كامل في المشهد ولا يستطيع الخروج منه ليكون محايدًا.
هذا حتّى الآن على الأقلّ. على الشاطئ يشترك الجميع في طقوس وعادات مفروضة،
والكتابة – إذا رغب فيها الكاتب على الشاطئ – ستأخذه إلى مكان آخر، مختلف كليًّا.
قد يكون في هذا الكلام الكثير من التعميم، ولكن غياب البحر كبطل رئيس، كما في
روايات حنّا مينه السوريّ مثلًا، يضعنا أمام شتّى الاحتمالات.
لقد نزل الأديب إلى المدينة، ولكنّه لم ينظر إليها كطبيعة
وجغرافيا، لأنّه كان مشبعًا بالريف الذي اعتبره مرآة الطبيعة، ولأنّه كان يريد من
المدينة شيئًا آخر. وجد فيها المقهى والشارع والشقّة المفروشة، وكلّها أعطته
هامشًا من الحريّة الشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. لذلك لم يلتفت إلى البحر وهو
الجانب الطبيعيّ المتاح، فليس من أجله نزل إلى المدينة. وهكذا لم يستطع شاطئ البحر
أن يكون مسرحًا لقصّة أو رواية بل بقي معبرًا قليل الأهميّة، كأنّه ارتبط بالخطيئة
والمعصية، ارتفاع موجه وغضبه يشيران إلى نقمة السماء في ما يشبه طوفان نوح.
10
إنّ عوامل الجغرافيا والمناخ قد اتّخذت طابعًا روحيًّا في الأدب
اللبنانيّ، فحين يقول المهجريّون إنّ لبنان ريف العالم فإنّما يريدون القول إنّه
الأرض المقدّسة، والعودة إليها إنّها هي استعادة الفردوس المفقود. وحين يقول أمين
نخله إنّ الريف يحقّق مزاج الإنسان بينما المدينة تفرض عليه هندستها فكأنّما هو
يقول إنّ الريف الطبيعيّ هو صنيعة الله يصالحك مع السماء ومع نفسك، أمّا المدينة
فإنتاج بشريّ يبعدك عن ذاتك ويغرّبك. أليست، على ما كتب جبران، موئلًا
"لأشباح المفاسد وأخيلة الانحطاط" أو على ما يقول أبو شبكة إنّها "حضارة
مشوّهة الوجه" فيطالب الدهر بإرجاع الصاج والجرن والمهباج وليسترجع
"الكهربا وكاذبات المنى"؟ وإذا أخذنا نصّ أغنية "خدني"
للأخوين رحباني نجد أنّها تبدأ بذكر التلال والتراب والثمار وتنتهي بالركوع
والصلاة:
خدني على تلّاتها الحلوين
خدني على الأرض اللي ربّتنا
انساني على حفافي العنب
والتين
اشلحني على ترابات ضيعتنا
وتنتهي الأغنية بهذا القرار:
"إركع تحت أحى سما وصلّي". إنّ جغرافيا الريف إذًا تدعو إلى الصلاة
والخشوع. فالله هو "نبع الينابيع" و"شمس المساكين" وغضب الله
رعد وبرد وعواصف، والماء عنصر مقدّس في مختلف الديانات، به يتطهّر المؤمن وبه يتبارك،
شرط ألّا يفيض بقسوة ويطوف جارفًا كلّ شيء.
من المعروف أنّ الأنواع الأدبيّة مرتبطة النشوء والنموّ
بالأقاليم الطبيعيّة. فالشعر الحديث والرواية مثلًا يحتاجان إلى تحرّر الميدنة
وحداثة المدنيّة المتجدّدة. أمّا الزجل والمحكيّة فمرتبطان بالريف والجبل عمومًا.
ولكنّ الأكيد أيضًا أنّ هذه الأقاليم المتداخلة اليوم بفعل التبدّل الحاصل في
المناخ وطبيعة الأرض استتبع تاليًا انصهارًا في مختلف الأنواع، كما أنّ اختصار
المسافات والقدرة على مقاومة قسوة الطبيعة وتحدّي بردها وحرّها وتطوّر العلم،
بالإضافة إلى النظرة الواقعيّة إلى متغيّرات الطقس والبيئة بمعزل عن الدين، كلّ
ذلك جعل الطبيعة منذ فترة رمزيّة الحضور في اللغة والأدب. وها نحن نقرأ لكثير من
الأدباء يقيمون بشكل شبه دائم بعيدًا عن صخب المدينة، لكنّنا لا نجد في كتاباتهم
إشارة إلى الطبيعة والمناخ إلّا بقدر ما يخدم ذكرهما النصّ الأدبيّ، ولعلّ رشيد
الضعيف خير من يمثّلهم.
إنّ الجغرافيا الملجأ إذًا هي الحاضرة، أكثر من سواها، في الأدب
اللبنانيّ. لا البحر الغمر الذي يستتبع المغامرة، ولا السهل المفتوح على كلّ
الاحتمالات والأمكنة. وهي الجغرافيا الهيكل والمعبد، حيث البخور – أليس اسم لبنان مرتبطًا
باللبان؟ -والشموع والزهور. يقول عاصي ومنصور: بعلبك أنا شمعة على دراجك / أنا
نقطة زيت بسراجك. وهي الجغرافيا "الروحيّة" المجرّدة السامية: لبنان يا
قطعة سما، يغنّي وديع الصافي. وهذه الصفة لا بد ستفرض على المتعاطي معها مسلكًا
معيّنًا ولغة خاصّة.
ولكن
كان لا بدّ لهذا المثلّث من أن تهتزّ أضلاعه. فالملجأ تشرّعت أبوابه واضطُهد
الهاربون إليه، والهيكل دنّسه تجّار حوّلوه مغارة لصوص، وعادت جغرافية لبنان إلى
واقعيّتها: جبال تصلح لمشاريع سياحيّة، ووديان نصلها بالجبال بواسطة التلفريك،
ونقيم على جوانبها المقاهي والملاهي والفنادق، وأنهار تصلح مكبّات للنفايات،
وشواطئ ننظر إليها من بعيد ولا نستطيع زياتها لأنّها أمست ممتلكات خاصّة.
هذه
هي العناصر الحديثة للأدب اللبنانيّ المعاصر. أمّا جبل الشيخ – جبل التجلّي –
فوحده سيبقى خارج الأدب، فقبل الآن كان أبعد من أن يطاوله قلم الأدباء، وبعد الآن،
تقول أخبار جيرانه، فثمّة مشاريع سياحيّة تنتظر على جمر قد يذيب ثلوجه، مجيء
السلام في المنطقة جاذبًا السيّاح إلى تاريخه وقممه. وفي وقت ترتفع أسعار الأراضي
ويتسابق السماسرة إلى المنطقة، يخشى الشيج الجليل على هيبته ووقاره، وقد صارت
قدسيّته عنوانًا إعلاميًّا تجاريًّا.
إنّ
الجغرافيا الجديدة ستكتب بلا شك تاريخًا جديدًا وأدبًا آخر. والطقس الذي خفّت حدة
برودته أخذ معه الكثير من الذكريات والأغنيات والحنين. ففي الشتاء كان عندنا حنان
الجدّات والشِّعر والعطاء:
بيتك
يا ستّي الختيارة / بيذكّرني ببيت ستّي
تبقى
ترندحلي أشعارا / والدنيي عم بتشتّي
أو:
شتّي يا دنيي ت يزيد موسمنا ويحلا
ومع الصيف ذكريات الحبيب:
صيّف يا صيف/ ع جبهة حبيبي
وفي الربيع عرس وفرح:
عروستنا الحلوة / يا نيسانه حلوة
أمّا مواسم البرد فللصلاة:
أقول لطفلتي / إذا الليل برد / وصمت الربى / ربى لا تُحدّ / نصلّي فأنت صغيرة /
وإنّ الصغار صلاتهم لا تُردّ.
هل راحت الطبيعة التي كانت زمن الرومنطقيّة والعشق مخبأ حبيبين،
يختفيان خلف ضبابها، ويتستّران بليلها، ويكتشفان الحبّ المتجسّد ويغنّيان مع
فيروز:
يا ريت إنت وأنا بشي بيت /
بيت أبعد بيت / ممحي ورا حدود العتم والريح / والتلج نازل بالدني تجريح / تضيّع
طريقك وما تعود تفلّ / وتضلّ حدّي تضلّ؟
لقد ترافقت طويلًا الفصول مع هذه المشاعر الإنسانيّة، أمّا أن
ترتبط بمواسم التسوّق وعمل البلديّات والشركات السياحيّة، وأن يتحوّل المطر والثلج
والحرّ والهواء مادّة سياسيّة بين الموالاة والمعارضة فشأنان آخران مختلفان
تمامًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق