حين أنظر إلى صورة خالي "سليم" حاملًا شقيقه
"ميلاد" أسأل نفسي: كيف يكون هذان الصغيران خالَين عجوزين لفتاة لم تر
فيهما يومًا، على الرغم من تقدّمهما في العمر والخيبات، سوى طفلين يشاكسان الحياة
ولا يأخذانها على محمل الجدّ؟
هكذا كانا دائمًا:
خالي "سليم" الذي رحل منذ أسبوع، وخالي "ميلاد"
الذي يصارع السرطان.
عاشقا الشعر والمطالعة...
المغرمان بالأرض وبنتاجها...
شقيقا أمّي اللذان يصغرانها ويكبّران حسرتها عليهما...
الوالدان اللذان كان كلّ منهما ولدًا آخر في عائلته، لا يعرف من
الأبوّة سوى أنّها رفقة طريق على درب الأولاد، يوجّهان ولا يقودان أو يقيّدان...
الابنان اللذان يشبهان والدهما في ثورتهما بسبب أمر بسيط وتغاضيهما
عمّا يراه الآخرون جوهريًّا أساسيًّا...
هكذا كانا، وهكذا بقيا حتّى رحل "سليم" إلى حيث ينتظر "ميلاد"
شقيقه الصغير...
***
ماذا أكتب في هذه الليلة عن أمّي التي تكبر شقيقيها وتفقدهما واحدًا
بعد الآخر، وهي تشعر بالعجز والذنب والأسى، فتغرق في جمودها وصمتها وصلاتها
الصامتة؟
ماذا أكتب بعد عن الراحلين الذين يغيبون تباعًا كأنّهم على موعد؟
لم أقلْ لأمّي في عيد الميلاد: سنة بعد سنة يقلّ عدد الزائرين. "أسعد
مكرزل" زوج ابنة عمّي و"جريس" ابن عمّي، و"إلهام خيرالله"
صديقة العائلة، "عبدو كرم" زوج عمّتي "روزالي" الذي رحل ليلة
رأس السنة، زوج خالة أمّي "فؤاد"، عمّتي "إميلي"، خالي "سليم"،
وها هو خالي "ميلاد" يُحتضر، و"حبيب" ابن عمّه يسابقه، و"زبيدة"
ابنة عمّه تعاني الأمرّين من أوجاعها... وجوه كثيرة تلحق بوجوه سبقتها، وأمّي وأبي
يراقبان بخوف كيف يأكل الزمن ما تبقى من أعمار عمّي "بشارة"، وعمّي "سعد"
وزوجته "جورجيت"، وعمّي "إميل"، وعمّتي "روزالي"
وكثر غيرهم...
***
هي طفولتي التي تغيب معهم. لذلك فحين أكتب عن هؤلاء كلّهم وأبكي،
فعليهم وعلى عمري المطبوعة عليه وجوههم أبكي.
هم آخر القدماء بحسب تعبير يوسف حبشي الأشقر. لكنّهم هم أوّل من
كنت أراهم حول سرير مرضي.
الأطفال لا يزورون الأطفال المرضى. الكبار هم من يقومون بواجب العيادة.
لذلك كان كلّ هؤلاء حولي حين كنت أخضع لعمليّات جراحيّة تبقيني أسيرة الفراش
أشهرًا طويلة. كان الكبار هم الضيوف الزائرين، حاملي الهدايا والحكايات والأخبار
عن عالم خارجيّ لا تصل إليّ منه سوى أصداء تثير شهيّتي على اللعب مع الأولاد في
دروب البلدة. فكيف لا يعلقون بذاكرتي، يمتصّ الموتى منهم نسغ الحياة من طفولتي
المرصودة على اسم الألم، أمّا الأحياء فيرون في كلماتي شدّة خوفي عليهم من رغبتهم
في اللحاق بمن سبقهم.
***
للموت عندنا فصول. ونحن اليوم في فصل جديد منه.
ها هي الأبواب تُفتح مشرعة، كأنّ الأرض نقص ترابها وهي في أمس الحاجة لأجسادهم، أو كأنّ الناس تعبوا ويريدون أن يرتاحوا، أو كأنّ الموت قال كلمته وانتهى
الأمر... لكنّهم في النهاية يرحلون...
خالي "سليم" قال لزوجته عمّتي "إميلي": فلنسرق
المرض من ابنتينا ونتألّم عنهما.
خالي "ميلاد" لا يعرف أنّ شقيقه "سليم" سبقه،
وأمّي لا تعرف أنّ ابنتها "سميرة" ساهرة الليلة إلى جانب سرير خالها "ميلاد"
كي لا تبقى زوجته "ماري" وابنه "ماجد" وحيدين...
الوقت يعصر القلب، والريح تولول، والأوبئة تتكاثر، والناس يلهون
أنفسهم بترشيح جعجع عون لرئاسة الجمهوريّة، الحياة تستمرّ في مكان، تنتهي في آخر،
غدًا يوم عمل عادي مهما كان عدد الراحلين في عتمة هذا الليل... لا تعرف أمّي ماذا
ينتظرها غدًا، لن يعرف أبي ماذا يقول لها، لن نعرف ماذا سنقول لـ"ماجد"
ابن خالي... الليل طويل، الانتظار ثقيل، الطبّ عاجز، خالي "ميلاد" يكتب
قصيدته الأخيرة... وأنا أبكي الليلة عنّي وعن أمّي.
هناك تعليق واحد:
الأديبة الراقية ماري
أخشي أن أكتبَ كلمة واحدة... فأعكّر نقاء ألمكِ وحزنكِ...
رحم الله من سبقَ وخفّف آلام من يشكو
وأطال الله بعمرك وبعمرِ والدتكِ ومحبيكِ
إرسال تعليق