Massimo Berruti
يموت الموتى عندما لا يجدون من يتذكّرهم. يُدفنون تحت طبقات سميكة من النسيان حيث تكفّنهم برودة الغياب، يغمضون أعينهم على وجوه الأحبّاء ويستعيدون الحياة التي غيّبتهم ومحت أسماءهم من سجّلاتها.
لم يكن الموتى يموتون قبل هذا الزمن الرديء، كان الحِداد عليهم يبقيهم لأطول فترة ممكنة في بيوتهم وأحيائهم، وكانوا يسهرون مع الساهرين في أمسيات الشتاء قرب النار أو تحت نجوم السماء في ليالي الصيف الصافية، وكانت حكاياتهم وأخبارهم تستعاد بما فيها من بطولة أو كرم أو عشق أو طرائف لتملأ مخيّلات السامعين بصورهم وأسمائهم، وحين يسيطر النعاس على الساهرين المتسامرين كان الموتى يتسلّلون إلى أحلام النائمين يؤنسون هناءة رقادهم. وحين بدأت كاميرات التصوير تؤرّخ سيَر الناس صارت وجوه الذين رحلوا لوحات تزيّن حيطان البيوت وتشرف من عليائها على حياة من في الدار يعيشون ويحبّون ويتخاصمون.
ومع تغيّر إيقاع الحياة، صار أبطال المسلسلات التلفزيونيّة هم رفاق السهر، وحذف مهندسو الديكور صور الراحلين من قاموس الأثاث المنزليّ، وتعلّم الأحياء كيف يدفنون الموتى على عجل وكيف يتابعون الحياة التي لم تعد تنتظر من يتأخّر ليلقي نظرة وداع على أحبّائه الراحلين. فالبقاء للأقوى على ابتلاع حزنه وتخطي اشتياقه وابتلاع دمعه وخنق نحيبه ليعود بعد تقبّل التعازي مباشرة إلى العمل كأنّ شيئًا لم يكن. ودفنت عجلة الحياة الموتى بعدما غيّبهم الموت، وما عدنا نأتي على ذكرهم ونبتسم لهم حين نتخيّلهم جالسين حيث اعتادوا الجلوس، وندمع اشتياقًا لسماع أصواتهم وملامسة وجوههم.
مع بداية هذه السنة (2009)، تمّ تبادل رفات أسرى عراقيّين وإيرانيّين قضوا خلال الحرب بين البلدين (1980-1988). عدد كبير من جثث الأسرى المجهولة الهويّة عاد إلى أرض الوطن ولم يجد من يستقبله. في العراق، عائلات كاملة زالت من الوجود ولم يظهر أحد منها ليستقبل هؤلاء الذين قُطع الأمل من عودتهم أحياء وطالت غربتهم موتى. لم يعرف أحد إن هاجر أهل هؤلاء الشهداء أو قتلوا أو هجّروا أو يئسوا من انتظار جثث لا يعرفون كيف يتأكدّون من هويّتها. فدفنت الرفات في مقابر خاصّة على أمل أن يتمّ التعرّف عليها في المستقبل، وهكذا انضمّ هؤلاء الموتى إلى من في التراب من منسيين مرّوا على هذه الأرض وعبروا. في أرض العراق مقابر جماعيّة لا يُعرف عددها ولا عدد ساكنيها، كم يؤلم الروح أن تتحوّل الأرض التي قد تكون أوّل مكان في تاريخ البشريّة، عرف الأنظمة والقوانين بفضل "حمورابي"، بؤرة صراع لا حرمة فيها لميت ولا كرامة لحيّ.
ومنذ أيّام، اكتشفت أنّ صديقتي التي قضى عليها مرض السرطان ورحلت تاركة طفلين غائبةٌ عن ذكريات عائلتها، فأدركت أنّ الناس يجبرون أنفسهم على محو تاريخ كامل ليجدوا القدرة على الاستمرار، كأنّ الحياة اليوم تعلّمهم أن يدفنوا الموتى ويتابعوا المسيرة، وهم لا يعلمون أنّ الموتى يطالبون بحقّهم في ألاّ يكونوا موادّ سامّة غير قابلة للتلف تتقاذفها الدول لتطمر في أرض مجهولة ولو تلوّثت بسببها المياه الجوفيّة وتلف الزرع. كان الهنود الحمر يرون أجدادهم وأسلافهم في الأشجار والرياح فيتابعون الحياة وهم يعرفون أنّهم ليسوا وحيدين في هذا الكون. لا أعرف ماذا بقي من إيمان هؤلاء بعدما قضى الرجل الأبيض على حضارتهم وشتت قبائلهم وأجبرهم على التقوقع في محميّات صغيرة تصل إليهم فيها حاجتهم من الطعام والشراب والمخدّرات.
إنّ الميْت ليس جثّة ملتصقة بنا تعيق حياتنا وتقودنا نحو الإيمان بعبثيّة الوجود وضرورة التخلّي عنه، كما يحدث لأحد التوأمين السياميّين حين يموت أحدهما ويبقى معلّقًا بالآخر حتّى يصطحبه معه. هو حياة تستمرّ قيمتها بعد الموت، وتستمدّ بقاءها من استحضارها في حياتنا حكاية جميلة لا جرحًا غير مندمل.
***
صحيفة البلاد - البحرين - 2009
هناك تعليقان (2):
رائعة دائما
وسلمت يداك علي ما تكتبين وأنا من الزوار الدائمين لك لكن نادرا ما اعلق هي عادة ذميمة أحاول التخلص منها
أردت لفت انتباهك لخطأ كتابي عند أحببتك فصرت رسولة من السرعة تغيرت الراء والصاد
تحياتي لك ودمتي لنا مبدعة
شكرًا لك صديقي على المتابعة والرسالة والملاحظة. يسعدني أن تجد الوقت لزيارة مدوّنتي، وأتفهّم ألّا تجد الوقت دائمًا للتعليق. ولكن إطلالة من وقت لآخر تضيف إلى المدوّنة وتغنيها. دمت بخير.
إرسال تعليق