كنت اثنتين. ولكنّ أحدًا لم يصدّق. وبقيت اثنتين حتّى اللحظة الأخيرة. ولم يقبل أحد، أصرّ الجميع على اعتباري أقلّ من واحدة.
عندما اسودّت الدنيا في نظري، هذا ما سمعتم يقولونه في وصف حالتي، فهمت أنّّ الآخرين يرفضون أن يروا ما أرى، لذلك نقلوني إلى المصحّ، لعلّني أرى ما يرونه. لكنّ المكان الذي أُخذت إليه زادني اقتناعًا بأنّ الطريقة التي أتعامل بها مع الوضع هي الأكثر أمانًا والأكثر وعيًا.
وحين دخلت في الصمت الضبابيّ وجدت متعة في النظر إلى العالم والناس من خلال حجاب رقيق، خيوطه الدهشة المكبوتة والقبول القانع. ولكنّ أحدًا لم ير ذلك، كأنّ ما يقف بيني وبينهم يسمح لي بالرؤية من جهة واحدة، في حين كانوا يتخبّطون في سعيهم إلى الإدراك والتحليل بلا أدنى نجاح.
لذا لم بفهم أحد كيف انتقلت من الصراخ الأحمر إلى الصمت الأصفر. أنا نفسي لم أفهم كيف استطعت إقناعها بأنّي بتّ عاجزة عن تحمّل نوبات صراخها وانفعالها، وبأنّ خوفها من الليل، واختباءها تحت السرير حين تظنّ أنّ خطرًا يهدّدها لن يجديا نفعًا، بل إنّها تلهيني في الحقيقة عن أمور كثيرة يجب أن أفكّر فيها، وأحلام يجب أن أحقّقها.
وهكذا أمضيت الليالي وأنا أحتضن رعبها، وأغنّي لتوتّرها كما كانت أمّي تغنّي لها، لعلّها تهدأ وتنام. وحين توصّلت بعد أعوام إلى إشراكها في لعبة الصمت، لم يعترف لي أحد بالنجاح، وظنّ الجميع أنّ الأدوية الملوّنة والصدمات الكهربائية فعلت فعلها أخيرًا.
أعوام الصمت لم تكن كلّها صمتًا. كانت تفلت منّي أحيانًا ابتسامات أحار أنا نفسي في فهم أسبابها، ولكنّها كانت تمرينًا جيّدًا لوجهي المتيّبس من انحسار الحنان بعد رحيل أمّي.
عندما ماتت تلك المرأة التي لا أذكرها إلّا منكسرة النفس، اكتشفت أنّني سأشتاق إلى البيت الذي لن أعود إلى زيارته. كأنّ أمّي هي بوّابة البيت. وبغيابها النهائيّ لم يبق ممكنًا الدخول إلى الغرف الأنيقة والسرير الدافئ، واستنشاق العطر الذي لا يوجد إلّا حيث تكون. وحين كنت أزور البيت في مناسبات متباعدة كنت أتزوّد الألوان والروائح وملمس الأشياء. وهناك في المصحّ حيث كلّ شيء أبيض مريض، ورائحة النظافة تحاول أن تلغي خصوصيّة كلّ واحد منّا، كنت أنعزل وأستعيد ألوان المقاعد المتعبة، ورائحة الأغطية الحنون، وخشونة الجدران العتيقة، وأشعر بأنّ أمّي هي الوحيدة التي فهمت صمتي ودخلت فيه من دون أن تزعجه.
يوم ماتت أمّي كانت جميلة وحزينة. أعرف ذلك ولو لم أشهد عليه. أعرفه كما عرفت أنّها ماتت من غير أن يخبرني أحد أو أسأل أحدًا. ويوم متّ أنا كنت بشعة وغريبة. ولكن ما يعزّيني هوأنّي لم أكن أنا. وحين كنت أنظر إلى النعش البنيّ الذي سُجّيت فيه، في انتظار وصول أفراد قلائل من الذين تذكّروا وجودي، كنت أراقب وجهًا غريبًا لم أعتده طيلة عشرين عامًا من إقامتي في المصحّ. إقامة؟ لا أعرف لماذا أستعمل هذه الكلمة وكأنّي كنت أنزل في فندق فخم لا رغبة لي في مغادرته. لم أكن أملك في الحقيقة أدنى رغبة في الخروج من المصحّ الذي لا يشبه الفندق. فهو مكان كسواه. كنت أريد الخروج منها هي. لقد تعبت من الاهتمام بها.
في البداية لم يعنني المكان إلى الحدّ الذي كان يظنّه الذين حولي. لا لأنّي لم أعِ وجودي فيه، وما يحوطني من مآس وأمراض نفسيّة كانت تبكيني على أصحابها. بل لأنّي كنت أعتبر أنّ مروري من هنا لن يطول وسأغادر قريبًا هذا المكان الذي لم يستطع أحد أن يحزر سبب دخولي إليه. لا. هذه ليست الحقيقة. أمّي كانت تعلم، وأنا كنت أعلم، والأخرى التي أقيم في جسدها كانت تعلم. ولكننا صمتنا ولم نخبر أحدًا، وقبلنا الإقامة في هذا المكان في انتظار أن يصدّق الآخرون، كما صدّقت أمّي أنّي اثنتان. وأنّ هذا الأمر طبيعيّ جدًّا، ولشدّة ما هو طبيعيّ اعتبره الجميع، ما عدا أمّي، غير طبيعيّ ومرفوضًا.
في البداية لم يعنني المكان، ولا الزمان الذي يتجمّد لحظة يعبر الحيطان المرفوعة. ولم أخف فعلًا إلّا حين فقدت القدرة على استعادة الألوان التي بهتت في ذاكرتي، والرائحة التي لم تكن لتعود إليّ إلّا في الحلم. ومنذ ذلك الوقت وأنا أنتظر.
كنت سعيدة في الكنيسة الخالية إلّا من وجوه حائرة بين التأثّر واللامبالاة، والباردة لولا جمرة تحاول أن تغفو فتوقظها حبيبات من البخور تعيد إلى ذاكرتي المتعبة رائحة البيت حين كانت أمّي تحاول أن تطرد عنّي الأرواح التي تريد احتلال عقلي وجسدي، قبل أن تصدّق أن لا علاقة للأرواح الخبيثة بالأفكار التي تضجّ في رأسي والمشاعر التي تصطرع في قلبي، والتي لم يكن الزمن الذي عشت فيه زمنها، ولا المكان مكانها. فرضخت أمّي ورضيت بالأخرى التي أقيم فيها وصارت تستقبلها كما تستقبلني، كأنّها تحاول استرضاءها خوفًا عليّ منها, وتعلّمت مع الوقت كيف تحبّها كأنّها ابنتها.
ولو كانت اليوم في وداعها لوضعت على نعشها زهرة. ولكانت الزهرة الوحيدة.
كنت أقف شابّة جديدة وحرّة، وكانت الأخرى في الجسد الذي أغلق عليه النعش عجوزًا أتعبها الصراخ المحنوق وشوّهها الزمن البطيء. ومرّة أخرى عجزت عن أن أثبت لهم أّنّنا اثنتان، ولا علاقة لي بها سوى أنّي محكومة بالإقامة في جسمها العاجز. مرّة أخرى رحلت إلى المكان الأبيض ولم أجد الكلمات الواضحة. مرّة أخرى خانتني، هي، وانتقمت منّي. فجسدها البارد الآن لن يسمح لي ولو بابتسامة باهتة بلهاء على وجه متيبّس، يشتاق إلى قبلات تساقطت عن شجرة العمر مع رحيل أمّي. أمّي التي لم أعرف أحيانًا من كانت تقبّل فينا.
لم يجد الكاهن ما يقوله في عظته. أنا نفسي لم أجد طيلة حياتي الكلمات التي تستطيع حمل ما أشتهي قوله. الآخرون الحاضرون كانوا على عجلة من أمره. أنا نفسي كم استعجلت الخروج من الأبيض الضبابيّ وها هو أبيض الساتان الرخيص ينتظرني. السرير في المصحّ متلهّف لاستقبال سواي. أنا نفسي كنت أرغب في الرحيل، في النسيان، في منح الذاكرة أخيرًا متعة الكسل والتثاؤب بلا تفكير، بلا تحليل، بلا انتظار.
الشمعة في زاوية الكنيسة ترقص رقصتها الأخيرة. في استطاعتي الآن أن أمشي صوبها. منذ زمن بعيد لم أحتفل بعيد ميلادي. هل كنّا عهدذاك نحتفل بأعياد ميلادنا أم هي ذاكرتي تختلط عليها الأمور؟ انحنيت على الشمعة الهزيلة. أغمضت عينيّ وفكّرت في أمنية. جمعت الهواء في رئتيّ. نفخت في قوّّة ادّخرتها طيلة تلك الأعوام. انطفأت الشمعة. وفي الظلام الذي حلّ فجأة شعرتُ بتعب شديد، وأردت أن أنام إلى جانبها في النعش البسيط. رغبت في أن أغفو وأنا أحتضن كهولتها المستسلمة، ولكنّ الرجال أسرعوا في حملها وغادروا.
مسكينة أمّي.