السبت، 19 مارس 2016

نفاياتنا... وجهُنا الأنقى



قلوبنا السوداء ليست أكثر نظافة،
ضمائرنا المثقَلة ليست أكثر نقاء،
ألسنتنا النمّامة ليست أكثر طهرًا.
طائفيتنا المعشّشة في خلايانا ليست أقلّ ضررًا،
عنصريّتنا المتفاقمة ليست أقلّ أذيّة،
تعصّبنا المتنامي ليس أقلّ تلويثًا.
***
نفاياتنا - على الأقلّ - واضحة تحت عين الشمس، وفي عزّ نجوم الظهر... وفي الليلة القمراء طبعًا!
زبالتنا، فخر صناعتنا الوطنيّة، لا تخدع، ولا تدعي ما ليس فيها، ولا تتظاهر بما ليست عليه... والبعوض والذباب والجرذان والفئران والأفاعي... تشهد! وكذلك شاشات التلفزة العالميّة وصحفها!
جرائم العنف، التنابذ العائليّ، التناتش المذهبيّ، الصراعات الحزبيّة، الأخطاء التربويّة، الخطايا الطبيّة، فضائح رجال الدين، ميليشيات أهل الثقافة، غرور الأجيال الجديدة... تبدو النفايات منتزهًا بديعًا أمامها!
الهواء الإعلاميّ، الذوق الفنيّ، الروح الرياضيّة المعفّر جبينها، الأمومة المستقيلة، الأبوّة المؤجّلة، الأخوّة المصطنعة، الصداقة المزيّفة، الزمالة المخادعة، الجيرة الجائرة، البنوّة الجاحدة، الرفقة الغادرة... تبدو النفايات نتيجة طبيعيّة لها!
الصحف المأجورة، المكتبات الدكاكين، الشعراء المديونون المدمنون، النقّاد المـُحابون، المعلّمون المتشاوفون، الموظّفون المرتشون، المحامون المجرمون، القضاة الجبناء، العمّال الكسالى، المغتربون الغرباء، اللاجئون ناكرو المعروف... تبدو رائحة النفايات أمّام فسادها وفسادهم عطرًا منعشًا!
***
أكثر ما يجول في خواطرنا هو المكبّ غير الصحيّ!
وأكثر ما يعتمر في قلوبنا هو المطمر غير المطابق المواصفات الإنسانيّة!
وأكثر ما تتفوّه به ألسنتنا وتخطّه أقلامنا هو ما يحتاج إلى فرز!
وفي انتظار تحقُّق نظافتنا الداخليّة، ستبقى النفايات وجهنا الأنقى!

الأربعاء، 16 مارس 2016

الموت والنسيان وعبثيّة الوجود


Massimo Berruti

   يموت الموتى عندما لا يجدون من يتذكّرهم. يُدفنون تحت طبقات سميكة من النسيان حيث تكفّنهم برودة الغياب، يغمضون أعينهم على وجوه الأحبّاء ويستعيدون الحياة التي غيّبتهم ومحت أسماءهم من سجّلاتها.

    لم يكن الموتى يموتون قبل هذا الزمن الرديء، كان الحِداد عليهم يبقيهم لأطول فترة ممكنة في بيوتهم وأحيائهم، وكانوا يسهرون مع الساهرين في أمسيات الشتاء قرب النار أو تحت نجوم السماء في ليالي الصيف الصافية، وكانت حكاياتهم وأخبارهم تستعاد بما فيها من بطولة أو كرم أو عشق أو طرائف لتملأ مخيّلات السامعين بصورهم وأسمائهم، وحين يسيطر النعاس على الساهرين المتسامرين كان الموتى يتسلّلون إلى أحلام النائمين يؤنسون هناءة رقادهم. وحين بدأت كاميرات التصوير تؤرّخ سيَر الناس صارت وجوه الذين رحلوا لوحات تزيّن حيطان البيوت وتشرف من عليائها على حياة من في الدار يعيشون ويحبّون ويتخاصمون.

    ومع تغيّر إيقاع الحياة، صار أبطال المسلسلات التلفزيونيّة هم رفاق السهر، وحذف مهندسو الديكور صور الراحلين من قاموس الأثاث المنزليّ، وتعلّم الأحياء كيف يدفنون الموتى على عجل وكيف يتابعون الحياة التي لم تعد تنتظر من يتأخّر ليلقي نظرة وداع على أحبّائه الراحلين. فالبقاء للأقوى على ابتلاع حزنه وتخطي اشتياقه وابتلاع دمعه وخنق نحيبه ليعود بعد تقبّل التعازي مباشرة إلى العمل كأنّ شيئًا لم يكن. ودفنت عجلة الحياة الموتى بعدما غيّبهم الموت، وما عدنا نأتي على ذكرهم ونبتسم لهم حين نتخيّلهم جالسين حيث اعتادوا الجلوس، وندمع اشتياقًا لسماع أصواتهم وملامسة وجوههم.

   مع بداية هذه السنة (2009)، تمّ تبادل رفات أسرى عراقيّين وإيرانيّين قضوا خلال الحرب بين البلدين (1980-1988). عدد كبير من جثث الأسرى المجهولة الهويّة عاد إلى أرض الوطن ولم يجد من يستقبله. في العراق، عائلات كاملة زالت من الوجود ولم يظهر أحد منها ليستقبل هؤلاء الذين قُطع الأمل من عودتهم أحياء وطالت غربتهم موتى. لم يعرف أحد إن هاجر أهل هؤلاء الشهداء أو قتلوا أو هجّروا أو يئسوا من انتظار جثث لا يعرفون كيف يتأكدّون من هويّتها. فدفنت الرفات في مقابر خاصّة على أمل أن يتمّ التعرّف عليها في المستقبل، وهكذا انضمّ هؤلاء الموتى إلى من في التراب من منسيين مرّوا على هذه الأرض وعبروا. في أرض العراق مقابر جماعيّة لا يُعرف عددها ولا عدد ساكنيها، كم يؤلم الروح أن تتحوّل الأرض التي قد تكون أوّل مكان في تاريخ البشريّة، عرف الأنظمة والقوانين بفضل "حمورابي"، بؤرة صراع لا حرمة فيها لميت ولا كرامة لحيّ.

    ومنذ أيّام، اكتشفت أنّ صديقتي التي قضى عليها مرض السرطان ورحلت تاركة طفلين غائبةٌ عن ذكريات عائلتها، فأدركت أنّ الناس يجبرون أنفسهم على محو تاريخ كامل ليجدوا القدرة على الاستمرار، كأنّ الحياة اليوم تعلّمهم أن يدفنوا الموتى ويتابعوا المسيرة، وهم لا يعلمون أنّ الموتى يطالبون بحقّهم في ألاّ يكونوا موادّ سامّة غير قابلة للتلف تتقاذفها الدول لتطمر في أرض مجهولة ولو تلوّثت بسببها المياه الجوفيّة وتلف الزرع. كان الهنود الحمر يرون أجدادهم وأسلافهم في الأشجار والرياح فيتابعون الحياة وهم يعرفون أنّهم ليسوا وحيدين في هذا الكون. لا أعرف ماذا بقي من إيمان هؤلاء بعدما قضى الرجل الأبيض على حضارتهم وشتت قبائلهم وأجبرهم على التقوقع في محميّات صغيرة تصل إليهم فيها حاجتهم من الطعام والشراب والمخدّرات.

    إنّ الميْت ليس جثّة ملتصقة بنا تعيق حياتنا وتقودنا نحو الإيمان بعبثيّة الوجود وضرورة التخلّي عنه، كما يحدث لأحد التوأمين السياميّين حين يموت أحدهما ويبقى معلّقًا بالآخر حتّى يصطحبه معه. هو حياة تستمرّ قيمتها بعد الموت، وتستمدّ بقاءها من استحضارها في حياتنا حكاية جميلة لا جرحًا غير مندمل.
***
صحيفة البلاد - البحرين - 2009

الأحد، 13 مارس 2016

الفيسبوك الذي سوّد الوجوه والصداقات

تصوير باتريك نوتلي

صحيفة البلاد البحرينيّة - 2009

     أعتذر من كلّ الجيران الذين أغلقت أمام أعينهم ستائر غرفة نومي، وحجبت عنهم رؤيتي وأنا أبدّل ملابسي. أعتذر منهم لأنّني كنت أنانيّة ولم أفكّر إلاّ في نفسي، ولأنّني كنت رجعيّة لا تعرف أنّ المستقبل أسرع من لمح البصر، ولأنّني كنت أخجل وأعتبر التعرّي أمام الغرباء خطأ وخطيئة.

    فلو كنت أعلم ما أعلمه اليوم، لما عذبت نفسي بإطفاء الضوء في كلّ مرّة أقف فيها أمام الخزانة، وبإسدال الستائر المزدوجة السميكة، ولما حرمت الجيران من مشاهدة عرض مجّانيّ لجسد فتاة، مجرّد فتاة، والفتيات عن بُعد وَهْم نساء، ووهم جمال، ووهم جنس.
   

    عندما اشتركت في خدمة الفيسبوك أردت أن أراقب قدر المستطاع ما تنشره بنات أختي المراهقات من صور وأخبار، وما يُرسل إليهنّ من صور وأخبار. فشقيقتي لم يكن لها بعد خبرة في عالم الكمبيوتر، وأنا "خالة" مزعجة، فضلاً عن أنّني كنت حتّى الأمس القريب مدرّسة ومسؤولة عن الصفوف الثانويّة (يا لسوء حظّ بنات أختي!).


    المهمّ، اكتشفت أنّ الفيسبوك ليس علبة صور عتيقة لوجوه أليفة تعيد إلينا الذكريات الجميلة، بل هو صندوق "بندورا" متى فتحته وجدت نفسك أمام عالم غريب عجيب من الثرثرة والمعلومات والفضائح والمجموعات ذات الميول المختلفة والصور المثيرة لفتيات وشبّان يحاولون أن يقلّدوا نجوم عرض الأزياء والمسلسلات والأفلام في لباس البحر أو في ملابس النوم أو في السهرات وكلّ واحدة منهنّ أو واحد منهم يريد أن يقفز من الشاشة ليرتمي في حضنك في مقابل لحظة متعة أو لمسة حنان. هو عالم تشوّه فيه معاني الصداقات، ويسوّد وجه المجتمع.


في دهاليز الفيسبوك، تلتقي بأشخاص اختفوا من حياتك منذ فترة، وها هم يقتحمون غرفتك ويعرضون عليك صورهم وأسماء أصدقائهم وهواياتهم وكلّ ما يمكن أن يخطر في بالك من معلومات عنهم. ولكن إذا أردنا أن نكون صادقين فهذه الوجوه لم تجتح كلّها محيط غرفتك كمخلوقات فضائيّة لم تكن تعلم شيئًا عنها. فأنت قصدت أن تبحث عن اسم ما، وأردت أن تتلصص على حياته التي عرضها في الأساس على عيون الناس لأنّه هو نفسه يريد أن يراقب حياة سواه، أردت أن تعرف عنه ما لم يخبرك به لأنّه ابتعد واختفى، وكنت أحيانًا تفرح، وكنت أحيانًا تغار، وكنت أحيانًا تشمت، ولكنّك في كلّ الأحوال كنت تكتشف أنّ الناس يستطيعون أن يتابعوا حياتهم من دونك وها هي صور نجاحاتهم وأعراسهم وأولادهم تنبئك بأنّ الحياة مستمرّة خارج غرفتك، وبعيدًا عن مكتبك حيث يضاجع القلم الورقة وينجبا حكاية عن علبة صور لا تعرف ماذا تخبّئ لك وماذا تفضح عنك إن أراد أحدهم أن يسخر من صورتك التي التقطت ونشرت من غير معرفة أو إذن منك.


    المشكلة الوحيدة تقع في هذا الجوّ المشدود بين طرفَي نقيض لا مكان فيه للتعقّل والوعي والاعتدال والنضج: فإمّا شحن دينيّ يقود أولادنا نحو التطرّف ورفض الآخر، وإمّا فراغ دينيّ أو أخلاقيّ يقود أولادنا إلى الارتماء في حضن الآخر.


    هذا ما فعلناه طوال تاريخنا: عذريّة أو إباحيّة، موالاة أو معارضة، مدح أو ذمّ، إيمان أو إلحاد، شرق أم غرب، فقر مدقع أو غنى فاحش، معي أو ضدّي...وهذا ما نورثه لأولادنا الذين يغيب عنهم حسّ النقد والتحليل والجمال والحقّ والحريّة.

    أولادكم يضرسون لأنّكم مشغولون بأنفسكم ولا تدرسون تغيّرات المجتمع!

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.