الأحد، 28 يونيو 2015

اللغة العربيّة بين مطرقة المعاصرة وسندان الأصالة (2009)


مارون كرم على فراش المرض
جوليا بطرس






















     يقول المقرّبون من الفنّانة جوليا إنّ ولديها لا يتكلّمان باللغة العربيّة، ومعروف أنّ ابن الكاتب أمين معلوف وحفيد الكاتب رشدي المعلوف لا يعرف اللغة العربيّة، وفي مقابلة مع الشاعر مارون كرم في برنامج "ألو بيروت"، ظهر حفيداه وهما يحاولان في صعوبة أن يقولا ما قيل لهما أن يقولاه: جدّنا "شارع" كبير. وهما يقصدان "جدّنا شاعر كبير".
     ثلاثة نماذج وضعتني أمام سؤال حول مصير اللغة العربيّة! والسؤال يجرّ أسئلة: هل النماذج التي عرفتها صدفة وفي وقت واحد أزعجتني لأنّ أبطالها مسيحيّون؟ هل أزعجني أن يخون المسيحيّون اللغة التي دافع عنها أجدادهم ضدّ حملات التتريك؟ ولكن ما أسمعه عن اللغة في الخليج العربيّ وهي مزيج من الإنكليزيّة والهنديّة وغيرها من اللغات لا يختلف عن هذه النماذج، وكذلك اللغة في المغرب العربيّ التي هي مزيج من الفرنسيّة والإنكليزيّة والبربريّة والعربيّة؟ واللغة التي اخترعها الشباب لكتابة الرسائل عبر الفايس بوك والهواتف المحمولة أليست نذير شؤم يهدّد اللغة العربيّة؟
     منذ سنتين، وكنت لا أزال مسؤولة تربويّة في إحدى المدارس، طلبت من تلميذة أن تكتب عبارة على اللوح، فوقفت إلى الجهة اليسرى للوح لتكتب جملة باللغة العربيّة وفي سرعة غريبة...ولكن بحروف لا هي عربيّة ولا أجنبيّة. وعندما سألتها عمّا تفعله اعتذرت وقالت: لقد اعتدنا أن نكتب بهذه الرموز حين نكتب اللغة العربيّة.
     ولمن لا يعلم هذه الرموز لها قواعد وأصول لا أحد يعرف من وضعها وكيف انتشرت وصارت لغة الكتابة اليوميّة حتّى لأولئك الذين يجيدون اللغة العربيّة أو أيّ لغة أجنبيّة، ولكن فضلاً عن ذلك هذه اللغة قابلة للتطوّر بين يوم وآخر ولا نعلم متى تتغيّر ومن يغيّرها وكيف تنتشر وما هي أصولها...إلاّ إن شرح أحد المراهقين لنا نحن "الجهلة" المعاني الكامنة خلف صور تذكّر بالأحرف الأبجديّة البدائيّة.
يريد الجيل الجديد أن يخترع لغته الخاصّة، يريد أن يضع لها قواعدها الخاصّة التي يعجز "الكبار" عن تعلّمها ومواكبة تغيّراتها. واللغة تعبير عن حالة، وعندما يرغب الجيل الجديد في التخلّي عن اللغات المعروفة ليستعمل لغة مجهولة فهذا يعني أنّه يريد أن يتخلّى عن كلّ ما تمثّله هذه اللغة حضاريًّا ودينيًّا وتاريخيًّا. وهذا أمر يدفعنا للتساؤل عن الطريقة التي يحاول "أصوليو" اللغة العربيّة أن يدافعوا فيها عنها. فهل في الدعوة إلى قراءة ما كتبه الأقدمون حلّ لمن يرفض ماضيه؟ وهل في ربط اللغة بالدين خلاص للغة وانتشار للدين في حين يرتكب أكثر الدعاة ورجال الدين أخطاء فادحة وخصوصًا متى كان كلامهم مرتجلاً وشفويًّا؟
     لا تزال مجموعة من الحريصين على اللغة تعمل بحسب مبدأ " يجوز ولا يجوز" أو "يقال ولا يقال" وينشرون ذلك في كتب ومعاجم خاصّة تعالج مشاكل الأخطاء الشائعة. لا شكّ في أنّه من الواجب الدفاع عن لغتنا العربيّة ولكن هل ستنجح هذه الأساليب فعلاً؟ وهل سيفهم المجتمع العربيّ اللغة العربيّة إن صحّحنا فيها الأخطاء الشائعة؟
     لا شكّ أنّ ثمّة مشكلات اقتصاديّة وسياسيّة وعسكريّة واجتماعيّة تستدعي الاهتمام والمعالجة أكثر من موضوع اللغة. ولكن حين نفكّر في أنّ اللغة تعبير عن حالة، وأنّها خلاصة تجارب، وأنّها وسيلة تواصل وتفاهم وليست جدارًا نختبئ خلفه أو نخشى تسلّقه يصبح من الواجب أن نعيد النظر في طريقة تعليم هذه اللغة، وفي سبب انحسارها عن بيوتنا وصعوبتها على ألسنة أطفالنا، حتّى صار تلاميذنا متى كلّمناهم باللغة العربيّة لا بلهجاتنا المحليّة قالوا لنا ساخرين: هل تريدون أن نتكلّم باللغة المكسيكيّة؟ وهم يقصدون بذلك اللغة التي ترجمت إليها المسلسلات المكسيكيّة المدبلجة. ومع ذلك فقد استغلّت بعض المدارس هذه المسلسلات وأجبرت تلاميذها على مشاهدتها كواجب منزليّ لا مهرب منه وذلك لتحسين لغتهم الركيكة.
     وإلى الفنّانة جوليا نقول: هل يعرف طفلاك الإجابة على سؤال "الشعب العربي فِين؟" وإلى رشدي المعلوف نقول: نم قرير العين فحفيدك موسيقيّ، والموسيقى لغة عالميّة، وإلى مارون كرم نقول: لا تحزن، فحفيداك يتنبّأان، فبعد عمر طويل سيطلق اسمك على أحد شوارع لبنان ولكنّ الجيل الآتي لن يعرف أنّ هذا الشارع يحمل اسم شاعر كان شراعًا من الأشرعة التي أبحرت بالأغنية اللبنانيّة إلى كلّ أنحاء العالم.

الخميس، 25 يونيو 2015

شاكر المختار وجاك شيراك (2010)

صورة قديمة لبحيرة اليمّونة (عن الإنترنت)



     انصياعاً لرغبة والدها الذي استفاق في خريف عمره على إحساس غريب يشدّه إلى وطنه الحبيب لبنان، عادت الشابّة الفرنسيّة في إحدى صيفيّاتنا الصاخبة الحارّة لتتمّ معاملات انتمائها إلى جذور والدها.


     كانت الفتاة الفرنسيّة شكلاً ومضموناً ولغةً متوثّبة الفكر لأنّها ستلتقي بعد غياب طويل أقرباءها وتزور أماكن سياحيّة بدت في حكاية والدها الذي هاجر يافعًا من صنع آلهة لا من صنع البشر. ولذلك كانت الصبيّة الشقراء تتطلّع بلهفة إلى يوم يصطحبها ابن عمّها لزيارة المختار وإتمام المعاملات الإداريّة المطلوبة، وشعرت بإثارة خفيفة في مكان ما من دماغها وهي تُعامَل كالأميرات في قصص الأطفال حين أحاطها الجميع بالاهتمام لكونها مغتربة تعود إلى مسقط رأسها بعد زيارة يتيمة قامت بها طفلة. وعندما اتصل بها صديقها الفرنسيّ ليطمئنّ عنها كانت فخورة بإخباره بأنّها ذاهبة في الغد للقاء "مسيو لو مير" شخصيّاً.


     حين توقّفت السيّارة أمام المنزل العتيق، ظنّت الفتاة أنّ ابن عمّها يمزح معها ويشاكسها بقوله لها: وصلنا. فليس من الممكن أن يكون هذا المكان مركزاً إداريّاً يعمل فيه "مسيو لو مير". غير أنّ ابن عمّها ترجّل من السيّارة، وبدأ ينادي: وين أهل البيت؟ وين المختار؟ فطار مخّ الفتاة من مكانه وحلّق سريعًا فوق المركز البلديّ في مدينتها الفرنسيّة وسألت نفسها: ماذا أفعل هنا؟ خرج المختار إلى سطيحة الدار وهو يضع قميصه المرخي فوق بنطلون رياضيّ عتيق، ثمّ تمطّى كأنّه خارج للتوّ من نوم صباحيّ كسول، ورحّب بالزائرَين ثمّ اندفع يخاطب الشاب كأنّه يتابع حديثاً بدآ به قبل وصولها، وأخبره أنّه غدا باكراً إلى الحقل لريّ المزروعات قبل أن تشحّ المياه وترتفع حرارة الطقس، وعاد وغفا على مقعده تحت العريشة في الجهة الثانية للبيت حيث يلعب الهواء المنعش.


     كانت الفتاة لا تزال تحت وطأة الدهشة، محتارة في تفسير ما تراه: هل هذا مكان عمل المختار فعلاً؟ ولكن حين شرح ابن عمّها ما يريدانه للرجل الذي نسي أن ينتعل حذاءه وبقي يتنقّل حافيّاً على أرض الدار الباردة، فهمت أنّها صارت فعلاً في قلب العمليّة الإداريّة التي تثبت من هي وإلى أين تريد الانتماء وفكّرت في الهرب. غير أنّ المختار نادى المختارة التي حضرت وهي تمسح يديها بمريول المطبخ الملفوف حول خصرها الممتلئ وطلب منها أن تتمّ المعاملات وتكتب المطلوب. ثمّ خرج إلى السطيحة ونادى رجلاً كان يترجّل من سيّارته أمام الدكّان المقابلة لبيت المختار، وطلب منه أن يُحضر معه الدكنجي ليكونا شاهدين على المعاملة الإداريّة، فانصاعا من دون استغراب كأنّ الأمر منتظر أو مألوف. ولكي يكتمل المشهد، اصطحب شاكر المختار ضيفيه إلى أقرب خزانة قرب الباب، وأخرج من أحد أدراجها ختماً وانهال به بضربة قاضية على الورقة الرسميّة في وقت انسحبت المختارة معتذرة لأنّ الطبخة فوق النار. 
     حاول الشابّ أن يعرض على المختار بدل أتعابه، فثارت ثائرة الرجل الذي أنزل جميع القدّيسين والأنبياء وهو يقسم بهم كلّهم دفعة واحدة ويعترف بأنّه مهما فعل فلن يستطيع أن يكافئ عائلة الشابين التي دعمته في الانتخابات وأوصلته إلى هذا المركز، وهو لا ينسى فضل الخيّرين من أمثالهم. أمّا الفتاة فاكتفت بكلمة: مرسي مسيو لو مير، قالتها قبل أن يسحبها ابن عمها من يدها إلى السيّارة وهو يدرك جيّداً ماذا يدور في خلدها. وحين صارا في السيّارة المقفلة شبابيكها للحفاظ على برودة المكيّف، انطلق الشاب في قهقهة مجلجلة وهو يستعيد في ذاكرته منظر الفتاة حين رأت إلى المختار وهو خارج في نصف ملابسه. في حين كانت الفتاة تصرخ :Mais c'est quoi ça؟ عن جدّ هيدا هوّي المختار؟


     مضت صيفيّات كثيرة على هذا اللقاء، ولكن الحكاية ظلّت تستعاد خلال مواسم الانتخابات في سهريّات الرجال وصبحيّات النساء، وتنتقل عبر دردشات الصبايا والشبّان على صفحات الإنترنت والفايسبوك. المختار نفسه كان يغرق في الضحك حين يصف بأسلوبه المميّز كيف كانت البنت الفرنساويّة، حسب تعبيره، تنظر إليه وفمها مفتوح من الدهشة وهي عاجزة عن ضبط تعابير عينيها أو تحريك عضلة لسانها، وكان يضيف في كلّ مرّة: المسكينة! كانت مفكّرة حالها جايي ع بلديّة باريس وبدّها تشوف جاك شيراك.


صحيفة النهار - 15 حزيران 2010

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

لئلاّ يصير العمل عقابًا! (2009)




     العمل في حدّ نفسه ليس عقابًا، ولكنّه قد يتحوّل كذلك إن نحن حملناه معنا إلى المنزل، ومارسنا قوانينه على أزواجنا أو زوجاتنا وأولادنا وأهلنا، وتقيّدنا بشروطه في السرير وفي الحمّام وفي العطل والأعياد، وفي علاقاتنا العائليّة.
     لا شكّ أنّ كلّ واحد منّا يتذكّر عبارة تأنيب قيلت له في موقف معيّن بدا فيه كأنّه "يحقّق" مع زوجته، أو "يعلّم" والدته، أو يعالج "أباه"، أو "يدافع" عن أخته، أو "يفرض" هيبته على المخالف من أولاده، وما إلى ذلك من الأعمال التي يمارسها الصحافيّون أو المحقّقون أو المعلّمون أو الأطبّاء أو المحامون أو رجال الشرطة أو سواهم من العاملين في أيّ مجال أكاديميّ أو مهنيّ.
     والطامة الكبرى حين يتحدّث أحدنا عن عمله وكأنّه يحكي عن صديقه أو هوايته المفضّلة، لا بل أكثر من ذلك حين يمضي في العمل ساعات وساعات ولا يشعر بالحاجة إلى الاستراحة أو بالرغبة في العودة إلى البيت، فيصير مكان العمل هو "البيت"، أمّا البيت فيتحوّل المكان الذي ننفّس فيه الاحتقان والغضب والتوتّر والصراع من أجل البقاء وأعباء المنافسة وما إلى ذلك من المشاعر السلبيّة التي يولّدها مبدأ التمسّك بالعمل مهما كان الثمن، ومهما كان الراتب.
     وإذا لم يكن العمل عقابًا فهذا لا يعني أنّه حالة عشق وغرام. إنّه مجرّد عمل: ننفّذه باحترام وضمير مهنيّ حيّ والتزام ولكن علينا ألاّ نسمح له باحتلال بيوتنا وإقصاء من فيها عن مجالنا الحيويّ.
     لقد انهارت عائلات كثيرة بسبب إدمان أحد الزوجين على العمل، وتشتّت الأولاد الذين ادّعينا أنّنا نعمل من أجلهم، وتفكّكت صداقات بسبب الصراع على مركز شاغر، وفشلت قصص حبّ بسبب وظيفة لا يمكن جمعها مع الحبيب في مكان واحد أو بلد واحد أو قلب واحد. فالحضارة الحديثة بخطواتها الجبّارة في طريق التقدّم والتمدّن وتحقيق الذات والأرباح أقنعتنا بأنّنا إن لم نكن متفوّقين وناجحين وأثرياء فنحن فاشلون لا قيمة لحياتنا أو لوجودنا. ومن الغريب أنّ كلّ واحد منّا صدّق هذا الإيحاء وأفنى حياته في سبيل بناء مؤسّسة سيبيعها الابن أو الحفيد حصصًا وأسهمًا، أو عائلة لا تجتمع إلاّ للتباحث في شؤون توزيع الإرث، أو بيتًا فخمًا لا يؤوب إليه صاحبه إلاّ مريضًا أو محبطًا أو مرهقًا.
     في مرحلة معيّنة من حياتنا، كانت المثاليّة الكاذبة المخادعة التي علّمونا إيّاها في المدارس والجامعات تدفعنا إلى ما يسمّيه بعضنا: تضحية، تفانيًا، مجانيّة في العطاء، بذلاً للذات، وغير ذلك من المفردات التي توحي كلّ واحدة منها بكلمات أخرى لا ننتبه إليها مع أنّها كامنة في الحروف نفسها: فالتضحية تفترض وجود ضحيّة، والتفاني يفترض إفناء أحد، والمجّانيّة تفترض وجود من يأخذ من دون أن يقدّم شيئًا، والبذل يعني أنّ ثمّة من يقدّم نفسه ذبيحة من أجل وظيفة ما.
     هذا كلّه يعود إلى علاقة مرضية لم تخضع لعلاج نفسيّ جماعيّ مع المال. ولذلك فنحن ننظر إليه كأنّه ليس من حقّنا فنخجل من المطالبة به مع أنّه بدل أتعابنا، أو أنّنا نجنح نحو التطرّف المقابل فنؤلّهه ويصير ربًّا نعبده ونتنسّك في محراب وجوده. وفي كلتا الحالين لا نعرف السكينة والأمان.

الاثنين، 22 يونيو 2015

نقرأ لنحيا ونكتب لنبقى (2009)

Benson

نقرأ!
في عيون الآخرين الذين يحاولون أن يخبّئوا مشاعرهم عنّا لعلّنا نستطيع الوصول عبر قراءة نظراتهم إلى ما في قلوبهم وأفكارهم. وفي تصرّفات الناس وحركات أيديهم وملامح وجوههم، وفي السماء لعلّها تنبئنا بما يريح قلوبنا المضطربة، وفي الأرض لنرصد تحرّكاتها ونطمئنّ إلى أنّها لن تهتزّ تحت أقدامنا، وفي النجوم لنكتشف مصائرنا، وفي فناجين القهوة لنتسلّى، وفي اللوحة لنغسل عيوننا من بشاعة العالم، وما بين السطور لنكتشف المستور.
نقرأ!
لنتواصل مع ما حولنا عبر الكلمات التي تمتدّ جسورًا في الهواء وفوق المياه وعبر الجبال والصحارى والتاريخ والجغرافيا، ولنعرف الماضي، ونفهم الحاضر، ونستعدّ للمستقبل.
نقرأ!
لأنّنا مهتمّون، ولو لم نكن كذلك لما قرأنا، ولذلك نقول في لهجتنا اللبنانيّة عن تصرّفات شخص يهمل الآخر ولا يعيره اهتمامًا ولا يقيم له شأنًا: مش قاريه، أي لا يقرأه.
نقرأ لنحيا، ولكن لا كما تحيا سائر الكائنات التي لا تعرف للجمال قيمة ولا تعنيها إلاّ غريزة البقاء في حدّه الأدنى.


*******


نكتب!
على الرمل حيث يحلو لنا أن نخطّ كلمات نعرف أنّ الموج سيمحوها، أو في الصخر حيث نظنّ أنّ ما حفرناه لن تقدر عليه عوامل الطبيعة، أو على جذوع الأشجار حيث نصوّر أسماءنا وقلوبًا وأسهم كيوبيد ونحن نصلّي كي يدوم الحبّ كالجذوع ولا يتساقط ميتًا كالأوراق، أو نكتب على الحيطان لنسجّل مرورنا أو غضبنا أو شتائمنا أو شعاراتنا المجترّة...
نكتب!
لأيماننا بأنّ الكتابة تبقينا ولو عَبَرنا، وبأنّ لها القدرة على فعل ما نعجز عن تحقيقه، كأنّ الكلمات وهي تكتب تصلنا بعوالم أخرى تحقّق الأمنيات وتنفّذ الطلبات. ألذلك يقول العاشق في لهجتنا اللبنانيّة وهو يشكو من سيطرة حبّه عليه وانصياعه لرغبات قلبه لا عقله أنّ الحبيبة "كاتبتلو"، أي كتبت له أي طلبت من أحد المشعوذين أن يخطّ له كتابة تجعله أسير حبّها؟
نكتب لنبقى، ولو متنا أو عبرنا أو نسيَنا الآخرون. فثمّة قوّة للكتابة تجعلها قادرة على إبقائنا ولو في ورقة صغيرة مخبّأة في حافظة الأوراق الخاصّة لإنسان واحد قرأ ما كتبناه ذات لحظة واحتفظ به.

السبت، 20 يونيو 2015

أحببتك على عللك لعلّك تبرأ منها (2009)




الحبّ لا يوجد إلاّ حيث العلل، وإلاّ فما الحاجة إليه؟

الحبّ يسعى إلى الكمال، لا بل إلى الاكتمال بالآخر، وإلاّ فما الحاجة إليه؟

ولو كان الواحد منّا بلا علّة لما احتاج إلى الآخر، وهل من إنسان بلاّ علّة؟ أليس قول المسيح عن أنّ ما من أحد بلا خطيئة هو من باب التأكيد على أنّنا نحمل هذه العلّة على الأقلّ؟

الجسم البشريّ لولا الحبّ لكان مجموعة من القاذورات والأمراض والميكروبات والأنسجة العرضة للاهتراء، والأعضاء التي تنتظر التلف كلّ لحظة بعدما كانت تتجدّد كلّ لحظة، والخلايا التي تحمل عناصر حياتها وموتها في الوقت نفسه. ولكن في لحظة الحبّ يحاط الجسم البشريّ هذا، المملوء بكلّ ما يمكن أن يثير اشمئزاز الآخر، بهالة من النور والسموّ ويتحوّل كلّ ما يخرج من الجسم عسلاً وطيباً وبخوراً. ولولا الحبّ لما حصلت هذه المعجزة.

غير أنّ في الجسم عللاً أخرى، منها ما هو طارئ لا سلطة للإنسان عليه ومنها ما هو كامن ينتظر لحظة الاعتراف به. والحبّ يغفر ما لا سلطة لأحد عليه، فهل يعتب العاشق على حبيبه إن مرض، أو شاخ، أو أعيق، أو عجز؟ قد يصبّ غضبه على المرض والشيخوخة والإعاقة والعجز، وعلى الحياة التي سمحت بكلّ ذلك ولكن ليس على الحبيب.

ولكنّ العلل الكامنة المختبئة خلف ستائر الكذب والخداع هي ما يخيف وبالتالي لا يكون الحبّ حبّاً إن كان ثمّة علّة نرفض الاعتراف بوجودها أو طلب المساعدة لمعالجتها. لربّما كان الخوف هو ما يمنع أحدنا من الاعتراف بعلله، الخوف من النبذ والهجر والوحدة بعدما ذقنا الرضا والوفاق والحبّ. وهذا الخوف هو ما يدفعنا لنظهر في صورة الكمال التي لا عيب فيها ولا دنس ولا علّة، فنحاول أن نشبه الصورة التي وضعناها لأنفسنا عن أنفسنا، ونعمل على تسويقها وإقناع الآخرين بصدقها وأصالتها ونحن نخشى كلّ لحظة أن يكتشف خبير بارع الزيف والتزوير والخداع. ساهمت في ترسيخ ذلك في أذهاننا صورة الإنسان الكامل التي بشّر بها بعض الفلاسفة والتقطتها وسائل الإعلام حين راحت تدعو إلى كمال الأجسام وجمالها. فنحن حين صرنا أسرى الصورة الكاملة الأوصاف لم نعد نريد أن نعترف بعللنا الظاهرة منها والمخفيّة، ولذلك أمعنّا في الهرب من الحقيقة لمصلحة الخداع وبالتالي الخيبة.

هل نستطيع أن نحبّ المختلس والسارق والمعتدي والمغتصب والقاتل والمجرم؟

لا شكّ في أنّنا نكره الاختلاس والسرقة والاعتداء والاغتصاب والقتل والإجرام، وقد نقع في حبّ أحد الذين التصقت بهم هذه الصفات ونحن مقتنعون بأنّنا مخلّصوهم، ولكن هذا أمر يحتاج إلى كثير من السمو والوعي والترفّع كي لا يصير حبّنا لهم تواطؤاً وتآمراً واشتراكاً في ما هم فيه غارقون. فأن تحبّ صاحب العلّة التي من هذا النوع يعني أنك قادر على أن تمدّ يدك لتخرجه من عتمة علّته إلى حيث الضوء والحبّ والنور. أمّا إن كانت علّته ستجرّك معه إلى هاوية بؤسه وغضبه وحقده فهذا ما لا يجوز لك أن تفعله بنفسك لأنّك مسؤول عن هذه النفس، عاشق لها، صديقها، ولا يجوز لك أن تعرّضها لهلاك ليس له مبرّر.
Miro


لعلّنا مدعوون إلى القبول بأننا لسنا آلهة بعدما كان لبعض الديانات والفلسفات دور في دفعنا إلى طلب التساوي مع آلهتنا في كلّ شيء، وكانت مأساة كلّ منّا أن عوقب باكتشاف هشاشته كلّ مرّة خيّل إليه فيها أنّه اقترب من تحقيق ألوهته. ولهذا حلا للإنسانيّة أن تقلب الأدوار وتتخيّل أهل السماء وهم راغبون في ارتداء أجسام البشر واختبار مشاعرهم وآلامهم، فجاءت أعمال كثير من المبدعين – في الرواية والفنّ التشكيليّ والسينما – لتظهر الآلهة التي تغار من الإنسان أو تعشقه وهي التي تعلم نقاط ضعفه، أو الملائكة التي تتخلّى عن خلودها من أجل قبلة حبّ، أو الرجال الآليين الذين تمنّوا أن يشعروا بما يشعر به البشر.
***

- قالت المرأة للمرآة: أحببته على علله لعلّه يبرأ منها، غير أنّه أحبّ علله أكثر من أيّ شيء آخر.

* النهار - الثلاثاء 1 كانون الأوّل 2009

الخميس، 18 يونيو 2015

اتعسوا برأيكم ولا تسعدوا برأيي (2009)


Femme fleur, interprétation libre d'un tableau de Vurpillot

(2009)
     إذا استعدنا أشهر قصص الحبّ في التاريخ، وتذكّرنا ما رافقها من صعوبات، نجد أنّ الأهل هم السبب المباشر في المعاناة التي لحقت بطرفَي العلاقة، وحجّتهم الحرص على مصالح أولادهم، ما يجعلهم مقتنعين بأنّ وقوفهم في وجه هذه المشاعر هو التصرّف الأمثل.
     وتتنوّع الحجج التي يقدّمها الأهل لتبرير مواقفهم المعارضة، فهناك الاختلاف الطبقيّ والعرقيّ كما في قصّة عنترة بن شدّاد وابنة عمّه عبلة، وهناك الخوف من نظرة المجتمع وكلام الناس كما في قصّة جميل بن معمر وبثينة، وهناك الصراعات العائلية كما في قصّة قيس بن الملوّح وليلى، وهناك الاختلاف الطائفيّ كما في روايات "ضحيّتان" لجورج مصروعة و"طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عوّاد و"الحيّ اللاتينيّ" لسهيل ادريس، وكثير من الأمثلة التي لا تحصى في التاريخين العربيّ والعالميّ، وكلّها تبيّن أن لولا ممانعة الأهل لما كان عندنا قصّص حبّ خالدة.
     تبيّن هذه النماذج أن ليس الحبّ هو ما جعل المأساة تنمو تدريجًا، وليس الحبّ هو ما أوصل الحبيبين إلى الجنون أو التشرّد أو الموت، بل مواقف الأهل التي مهما اختلفت تبقى موحّدة تحت عنوان المعارضة ومنع هذا الحبّ من تحقيق غايته في اللقاء والوصال. ولذلك تبدو الحجج التي يقدّمها الأهل بعيدة كلّ البعد عن المنطق والعدالة فضلاً عن أنّها تؤكّد أنّ ما يسعى إليه الأهل هو تحقيق غايتهم الشخصيّة بغضّ النظر عن مشاعر أولادهم، ما يؤكّد أنّ الأنانيّة هي المحرّك الأساس، غير أنّها تتنكّر بثوب الرغبة في ما هو أفضل للأبناء والبنات.
     بعض ممانعات الأهل يقف خلفها خوف الأب على ابنته من حبيب يشبهه ويتصرّف مثلما فعل هو مع النساء، ولذلك فكثير من الآباء يقول حين يستبدّ به الانفعال: أنا رجل وأعرف ماذا يريد الرجال. أو قد يكون سبب الاعتراض خشية الأم من أن تقع ابنتها على حبيب يتصرّف معها بعد الزواج كما يتصرّف زوجها هي معها وأن تكون ابنتها عاجزة عن المواجهة مثلها. وهناك الرغبة في الإبقاء على الأولاد لأطول فترة ممكنة في البيت العائليّ، وهناك الشعور بأنّ على الأبناء أن يعيلوا أهلهم قبل أن يفكّروا في الزواج والارتباط ، وهنا أتذكّر حكاية شابّة جميلة ارتبطت بقصّة حبّ مع طبيب يعلّمها في الجامعة وقرّرا الزواج، وكانت حجّة والدها في الممانعة، أنّ عليها أن تعمل لتفيه كلفة ما دفعه عليها قبل أن تفكّر في الزواج.
     إنّ التربية التي تنتقل ممارستها من جيل إلى جيل من دون مراجعة أو مساءلة أو نقد تضع في ذهن الأهل أنّ الأولاد استمرار لهم وبالتالي يستطيعون أن يتابعوا عبر حياة أبنائهم وبناتهم ما عجزوا هم عن تحقيقه، فالأب يريد أن يعمل ابنه في مهنة اختارها له وغالبًا ما تكون تتمّة لعمل متوارث في العائلة أو مرادفًا له، والأم تريد من ابنتها أن تتزوّج من الرجل الذي يشبه فتى أحلامها هي، وأيّ اعتراض على ذلك هو من العقوق ونكران الجميل.
     تحضرني هنا خاطرة كان جدّي يردّدها حين يُسأل عن رأيه في موضوع ما: "اتعسوا برأيكم ولا تسعدوا برأيي"، أي أنّه لم يكن يعطي رأيه حتّى ولو كان في ذلك للآخرين سعادة (غير مضمونة على كلّ حال). وكنت أتساءل وأنا أسمع ذلك منه إن لم يكن الأمر تهرّبًا من المسؤوليّة أو جهلاً في ما يجب أن يقال، غير أنّني كنت ألاحظ أنّه قانع في دوره هذا، مكتف بأن يقول للناس، ومن بينهم أولاده: أنتم أحرار في الاختيار، وتحمّلوا وحدكم نتيجة خياراتكم.
     أعتقد أنّه في ذلك كان يبحث عن حريّته.

الأربعاء، 17 يونيو 2015

من مذكّرات امرأة واقعيّة (قصّة قصيرة)


كان هذا الشهر مليئًا بالنشاطات، وأنا فخورة بنفسي لأنّي أنجزت وفي نجاح تامّ عددًا من الأعمال والمهمّات:
كتبت مجموعة مقالات أثارت موجة من الإعجاب وحرّكت عددًا مرتفعًا من الأقلام وقمت بدراسة مجموعة نصوص لأدباء محليّين وعالميّين،وشاركت في ندوة ضمّت كبار المفكّرين، وألقيت محاضرة في جامعة خاصّة، وأنهيت تصحيح مسوّدة مجموعتي القصصيّة فأضحت جاهزة للطبع، ولبّيت كذلك الدعوات الكثيرة التي وجّهتها إليّ الجمعيّات الأدبيّة والصالونات الفنيّة، وحللت ضيفة مكرّمة في أكثر من برنامج حواريّ، ثمّ سافرت إلى أوروبا لمشاهدة مجموعة عروض مسرحيّة، وهناك غيّرت لون شعري، وخضعت لجلسات تدليك، واشتريت مجموعة من الملابس وبعض الأحذية وحقائب اليد، وهدايا ثمينة لرئيسي في العمل ولزوجته وأولاده ولبعض الصحافيّين، والتقيت صديقي الذي سبقني إلى هناك فمارسنا الحبّ حتّى التعب. لكنّي كنت أشعر طوال الوقت بأنّ عليّ أن أقوم بعمل ما غير أنّي نسيت ما هو. ولم يسعفني صديقي على التذكّر فأهملت الأمر كي لا أنغّص عليه أجواء الرحلة.
عدت إلى البلد وفي رأسي مجموعة هائلة من الأفكار والمشاريع حتّى أنّي لم أكن أعرف من أين أبدأ. إنّما خلال مرحلة التخطيط والفرز وقبل اتّخاذ أيّ قرار تعرّضت لحادث سيّارة. صحيح أنّ الأضرار كانت ماديّة، لكنّ السائق الغبيّ كاد يتسبّب في عرقلة أعمالي وتنفيذ مشاريعي، إذ كان عليّ أن أتنقّل بسيّارات الأجرة، ولأنّ أعصابي المتوتّرة لم تحتمل ثرثرة السائقين استأجرت سيّارة بيد أنّي بقيت متأكّدة من أن هناك ما يجب القيام به أيضًا، لكنّي لم أملك فكرة واحدة عمّا يمكن أن يكون. ورغم أنّي راجعت دفتر مواعيدي مرارًا وتكرارًا لم أكتشف ذاك الذي نسيته وأعلم بوجوده في زاوية من ذاكرتي. ثمّ قرّرت أن أهمل الأمر كي لا أسيء إلى أدائي.
كنت أعود إلى المنزل في ساعة متأخّرة، وغالبًا ما كنت أمضي الليل لدى صديقي الذي عاد بعدي إلى بيروت. وتذكّرت مرارًا أنّ حقائبي تنتظر إلى جانب السرير كي أفرغها، لكنّ أفكاري كانت مأخوذة بأمور أخرى وتقف أمام تحديّات لا يمكن التهاون في شأنها. وكم أعجبت بنفسي وهنّأتها عندما استطعت في وقت قصير أن أضع مختلف الأمور في نصابها الصحيح. فحصلت على التهنئة والترقية والشهرة في فترة قياسيّة قياسًا بالآخرين. وحين كنت أحتفل بانتصاراتي مع صديقي الجديد، لأنّ القديم أضجرني بآرائه "المتفلسفة"، صدح صوت هاتفي الخلويّ: إنّها أمّي، قلت في تأفّف، وحين أجبتها في صوت محايد كي أفهمها أنّي لا أستطيع الاسترسال في الحديث، فاجأتني بسؤال: هل أستطيع أن أعرف متى ستجدين الوقت لاسترجاع ابنتك؟
* النهار – الاثنين 12 كانون الثاني 2004

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.