الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

لبنان كما تراه طفلة بريطانيّة



حين وصلت "ماريّا" ذات السنوات التسع إلى مطار بيروت وشاهدت أقرباءها الذين ينتظرونها أجهشت بالبكاء وارتمت في أحضان إحدى عمّاتها ولم تتركها إلاّ بعد أن أفرغت ما في عينيها من دموع.
الطفلة البريطانيّة/ اللبنانيّة التي تبحث جاهدة عن المفردات العربيّة الصحيحة لتعبّر بواسطتها عن مشاعرها وجدت سهولة في الحديث عن سبب تعلّقها بلبنان الذي لم تزره إلاّ مرّتين. وكان غريبًا أن يكون بعض ما نشكو منه هو ما أعجبها وجعلها تصرخ بنا مؤنّبة: أنتم لا تعرفون ما معنى أن تعيشوا في لبنان! رائحة البنزين، الازدحام، الشمس، الهواء، اللعب أمام باب البيت، عدم إقفال زجاج السيّارة المركونة أمام البيت مباشرة، هي جزء قليل من الأمور التي قالت ماريّا إنّها رائعة وغريبة ولا يوجد مثلها في بريطانيا. فهناك ممنوع على الطفلة أن تلعب على درّاجتها في حديقة المنزل خشية التعرّض للخطف أو الاعتداء، وهناك لا يمكن أن تترك نوافذ السيّارة مفتوحة ولو لثوانٍ لأنّ لصًّا ما سيسرق منها أيّ غرض، وهناك لا شمس ولا هواء عليلاً، ولا روائح غريبة، ولا بيوت مختلفة في الشكل والارتفاع واللون. وهذا ما لم يعد يرضي "ماريّا" التي أعلنت لحظة وصولها إلى بيت جدّيها أنّها لن تعود إلى لندن.
مع هبوط المساء وبرودة نسماته الربيعيّة، نادت الوالدة ابنتها "ماريّا" ودعتها إلى الدخول إلى المنزل لأنّ الشمس غابت والهواء أصبح باردًا، فكان جواب الطفلة السريع: اتركيني! أريد أن أتنفّس (اتركيني بدّي إتنفّس). وأمام إصرار الفتاة على استغلال المزيد من الوقت في اللعب خارج المنزل، أوضحت الأمّ للضيوف أنّها كانت تتوقّع ذلك بسبب الكبت الذي تعانيه ابنتها من جرّاء الحصار الذي تفرضه الحياة في الغربة.
بدا لي وأنا أراقب المشهد أنّ الأمان الشامل الذي تفرضه الدولة وتحميه القوانين في البلاد التي يقصدها المغتربون لم يؤمّن لهم الاستقرار النفسيّ والاطمئنان خلال لحظات أيّامهم وتفاصيلها الدقيقة. وإذا كان من السهل هناك أن ترفع دعوى تطالب بتعويض عن ضرر مهما بدا سخيفًا ولا يستحقّ فلا يعني ذلك أنّ الضرر لن يقع وأنّ الحياة الزهريّة اللون كما تغنّي "إديث بياف" صارت متاحة للجميع. وفي مدينة الضباب الرماديّة لم تجد "ماريّا" حياتها الزهريّة، وصار من الواجب، لكي تستعيد حيويّتها، أن تأتي إلى لبنان في موسم الربيع لتقطف "بخور مريم" و"الأقحوان" و"شقائق النعمان"، وتمشي في شوارع البلدة حاملة شمعة الشعانين المزيّنة في مسيرة طويلة لا تقيّدها شروط شرطة لندن الدقيقة والصارمة.


موعودة "ماريّا" بمشاوير ونزهات ورحلات إلى أكثر من مكان في لبنان: الأرز، بيت الدين، بحمدون، دير ما شربل في عنّايا، جبيل، وسط بيروت، غير أنّها بدت مكتفية باللعب بالطابة أمام بيت جدّها، وبتسلّق الأشجار في الحديقة، أو القفز على السلّم الأخضر الذي يربط الأرض بسطح العليّة حيث بدأت تمتدّ أغصان الدالية، وبمساعدة جدّها في ريّ أصص الورد، ومعاونة جدّتها في جمع الغسيل عن السطح. ولكن بالأكثر بدت آمنة في جوّ عائليّ صاخب يجمع عشرات الأشخاص من أهل البيت والضيوف الذين أتوا لتحيّة العائدين، وبالأحاديث الجديدة على قاموسها اللغويّ البسيط، وهي خليط غامض عناصره الأسئلة والآراء السياسيّة المحتدمة والتعليقات الساخرة. ومع أنّها لم تكن تفهم كلمة واحدة منها إلاّ أنّها شعرت بالحياة والحيويّة مقارنة بالوحدة والانعزال اللذين يحاصرانها في بيتها البريطانيّ الأنيق. وعن ذلك علّقت: يوجد في هذه الغرفة عدد من الناس يوازي ما نراه في منزلنا طوال السنة.
لقد كان في النظرات المستكشفة لتلك الطفلة والانطباعات التي تليها ما يجعلنا نعيد صياغة الوطن بأسلوب مختلف ليس فيه شيء ممّا يصفه به الكبار: فوضى، حرب، أوساخ، حُفر، مصالح، معاهدات، رشاوى، أحزاب، انتخابات. ولعلّ "ماريّا" اللبنانيّة/البريطانيّة في عفويّة ما فعلته وقالته لا تختلف عن أيّ واحد من المغتربين الذين يبحثون عن لبنانهم المفقود حيث ذهبوا.

الثلاثاء، 29 سبتمبر 2009

لو لم يكن ذكيًّا لما كان صديقي!



1- يجب أن أمسك بيدك وأقودك إلى حيث تنطلق وحيدًا في رحلتك المنتظرة. كلانا يحتاج إلى ابتعادك كي نستعيد فضاءاتنا الخاصّة التي كانت لنا قبل أن نلتقي.
يجب أن نفترق يا صديقي كي نجمع الحكايات التي سنتبادلها حين تجمعنا الدرب من جديد.



2- لو كان صوتك يا صديقي آتيًا مع الرياح والمطر
لأغمضت عينيّ طوعًا
واستسلمت لأغنية الليل وأحلام السفر.

3- حين أرغب في الكتابة إليك لا أستعمل القواميس والمعاجم لكي أبهرك بلغتي، ولا أسعى لكي أكون أهمّ شاعرة عرفها التاريخ.
حين أرغب في الكتابة إليك لا أفكّر إلاّ في أنّ الكلمات قد تكون الطريق الأجمل والأسهل التي توصلني إليك لا إلى جائزة نوبل للآداب.

4- لا تستغلّ يا صديقي العجوز كلمات الشاعرة سعاد الصبّاح لتسكتني بواسطتها، ولا تقل إنّك صرت تهتمّ بعقلي لا بشكلي بناء على طلبها. فسعاد الصبّاح لا تعرفك، ولا تعرف أنّك تستطيع الاهتمام بعقلي وشكلي في الوقت نفسه، وهي لا تعرفني ولا تعرف أنّني أريد منك أن تهتمّ بكتاباتي وفستاني، بأفكاري وتسريحة شعري، بكلماتي وكحل عينيّ. فلا تقحم سعاد الصباح في علاقتنا، ولا تتذرّع بأنّني كاتبة تهوى جمع الأقلام والدفاتر لتعفي نفسك من "مهمّة" البحث لي عن قبعة جميلة تصلح لنزهاتنا في الجبل وعلى شاطئ البحر.

5- الوقت الذي نمضيه معًا رائع... ربّما لأنّه يأتي بعد طول انتظار ويكون متنوّع الأحاديث والمشاريع.
ولكن، خصوصًا لأنّه قصير وسريع ومسروق... ويصاحبه دائمًا اشتياق للقاءات جديدة.



6- أنا مجبرة على التخلّي عن الرجل الذي أحبّه، ليبقى رجلاً ولأبقيَ على حبّه.


7- طبعتْ على خدّه بشفتيها الحمراوين قبلة، فطبع على خدّها صفعة من خمس أصابع.إنّه سخاء الرجال.إنّها براعتهم في الحساب.

8- قتل نفسه لأنّه لم يستطع أن يقتل جميع الناس الذين يزعجونه.

9- ليس "عندي بيت وأرض صغيرة فأنا الآن يسكنني" الهوان.

10- نظر الرجل في عيني ولده وقال له: ادرس جيّدًا يا بني واحصل على شهادة ترفع رأسنا، لقد بعت قطعة الأرض التي ورثتها عن أجدادي كي أعلّمك في أرقى المدارس. ذهب الولد إلى الصفّ، وانتظر الحصّة الأولى بفارغ الصبر، وحين وصل المعلّم قال للتلاميذ: درسُنا الأوّل هو عن أهميّة الأرض وضرورة المحافظة عليها لأنّها إرث من الأجداد للأحفاد. اصفرّ وجه الولد وبكى فنزلت من عينيه حبّتا تراب.


11- قالت المرأة للمرآة: أتعلمين لماذا أحبّ الحديث معك؟لأنّك تقولين ما أقوله وتفعلين ما أفعله من دون نقاش.

12- قلت لك مرّة: لا تهدني ساعة أضعها في معصمي، بل ساعة من وقتك نمضيها معًا.اليوم أقول لك: غيّرت رأيي، اهدني الساعة حتّى أنظر إليها كلّ دقيقة وألعن الساعة التي عرفتك فيها. وكم سيكون مناسبًا أن تكون ثمينة... لأتذكّر وقتك الثمين الذي أنفقته على العمل.

13- قالوا لي: صديقك ذكيّ!قلت لهم: لو لم يكن ذكيًّا لما كان صديقي!



14- لم أعد أحزن عندما تطير الأفكار من رأسي. فقد تعلّمت مع الوقت أنّ أحدًا سواي لا بدّ التقطها وستظهر للعلن عاجلاً أم آجلاً.

15- الأولاد يحبّون الحكايات والعجزة يحبّون سردها، فلم لا يوقّع اتفاق تعاون فكريّ وتبادل أدبيّ بين دور الأيتام ودور العجزة؟

16- كنت أهديه كتبًا في مقابل دعواته إلى ولائم الطعام التي ترفض رجولته أن أشارك في دفع حصّتي من كلفتها. ومع الوقت اكتشفت أنّه ازداد علمًا وازددت بدانة.

17- آدم نصفه دم... ويريد المزيد من دمي.

* صحيفة النهار - الثلاثاء 29 أيلول 2009

الاثنين، 28 سبتمبر 2009

البقاء لأشجار لبنان في الأغنية واللوحة



1.2 مليون من أشجار الأَرز وصنوبر البحر الأبيض المتوسط وغيرها احترقت في لبنان الصيف الماضي، بحسب تقرير منظّمة الأغذية والزراعة "الفاو"، وأشجار "اللّزاب" المعمّرة، والتي يتفوّق بعضها على شجر الأرز في قدرته على النمو فوق أعلى القمم، تقطعها فؤوس الحطّابين للتدفئة بحسب ما كشف الناشط البيئيّ كريستيان أخرس في تحقيق أجرته صحيفة "الشرق الأوسط" عن هذا الموضوع. فهل اقتربنا من اليوم الذي سنتذكّر فيه الأشجار من خلال الأغنية واللوحة ولا نجدها خارجهما؟
لا شكّ في أنّنا بتنا نسأم من أنفسنا ونحن نحاول أن نحارب بالكلمة فقط أسلحة فتّاكة كالجرّافة والحفّارة والمنشار والفأس والنار والأمراض والنفايات وكلّها تريد القضاء على أرضنا وغاباتنا ومياهنا وطيورنا وكلّ ما جعل هذه البقعة الجغرافيّة مميّزة بطبيعتها ومناظرها. وهل يمكن الكلمة أن تكون قطرة ماء تحفر في صخور العناد والغباء والجهل لتجد لنفسها ممرًّا ولو صعبًا إلى حيث تروي عطش زهرة؟ لا نعرف إلاّ أنّنا نملك الكلمات وسيلة تنبّيه وتحذير في حين يملك سوانا السلطة والقدرة والأموال ولكنّه لا يستخدمها ليمنع تحوّل هذه الأرض الخضراء بقعة لها لون الرماد والموت والزوال.
كلّ من يكتب عن موضوع البيئة يعرف أنّه عاجز عن مقاومة سياسات الدول والحكومات، ويعرف أنّه صوت صارخ في صحراء يرفض أبناؤها أن نرشدهم إلى واحاتها، ولكنّه يعرف في الوقت نفسه أنّه لا يستطيع أن يتناسى حرائق الغابات أو قطع الأشجار أو تلويث المياه، لا لأنّه كاتب وشاعر يتوقّع منه الآخرون أن يحبّ الطبيعة على عادة الرومنطيقيين، بل لأنّ معرفته ورؤياه التي لا تتخطّى الحاضر لا تسمحان له بغضّ النظر عمّا يعرف أنّ زواله يعني زوال الإنسان. ولذلك لا تقلّ الكتابة عن البيئة أهميّة عن الكتابة عن كلّ شأن آخر، لأنّ هذا الشأن الآخر، ولو كان الإنسان محوره وموضوعه، لن يجد له مكانًا ما لم تكن الطبيعة موجودة، والمياه نظيفة، والثمرة غير ملوّثة. ليس البكاء على الأشجار التي احترقت وقطعت هو مجرّد وقوف عابر أمام طلل بائد، بل هو رعب حقيقيّ من أنّ الركام الذي ينتشر في كلّ مكان سيصل إلى الداخل حيث لن يبقى إلاّ برودة الفراغ. لا الفراغ الموعود بالامتلاء، بل الفراغ الذي يعلن نهاية الأشياء وموت الجمال وانتحار الحياة.
إنّ أيّ مهرجان للشعر في بلادنا يكلّف ثروة طائلة وتحضيرات تمتدّ أيّامًا وشهورًا، ثمّ يصل الشعراء ويتبارون في رثاء الحياة والإنسان والطبيعة ومهاجمة الأنظمة والإعلان عن نهاية كلّ شيء. وحسابات بسيطة تظهر أنّ في الإمكان توزيع جزء من كلفة هذه المهرجان أو ذاك على محاربة ما سوف يتحدّث عنه الشعراء ويهاجمونه. فمن السهل جدًّا أن يدافع الشعراء بالكلام عن كتاب منعته الرقابة، ولكن لو دفع كلّ منهم ثمن نسخة من هذا الكتاب لنفدت الطبعة كلّها وانتشر الكتاب رغمًا عن أنف أيّ سلطة أو نظام. ولكن من الواضح أنّ بعض المثقّفين يهوى إثارة الزوابع ولا يعنيه مسح الغبار ورفع الأضرار بعدها. كأنّ الهدف لم يعد نشر الكتاب بل نشر عرض الدولة، ولا زرع الأشجار بل شتم من ينشرها حطبًا يشتعل في موقد الشاعر ويوحي إليه بأجمل الصور.
وما دام إبداعنا غارقًا في الانفعال فلن يحدث ثورة، وما دامت العاطفة وحدها هي التي تحرّكه فلن يحرّك أحد ساكنًا، وما دام العالم الذي نبنيه في الخيال هو الذي يعنينا أمره فلن نفعل شيئًا من أجل هذا العالم. والأشجار المحترقة والمقطوعة موضوع من المواضيع التي يجب أن نتعامل معها بانفعال هو من الطبيعة البشريّة شرط أن يقود إلى الفعل، وبعاطفة تدفع إلى الغضب لا إلى البكاء، وبخيال لا يهرب من خيبات هذا العالم بل يساعد على التخطيط لبناء عالم أفضل.
لقد اخترنا في لبنان شجرة الأرز شعارًا في عَلَمِنا ورمزًا لصمودنا، وربّما كان علينا أن نختار شجرة اللزّاب التي يقول الخبير البيئيّ كريستيان أخرس أنّها تحتاج إلى فسحتها من الهواء والشمس والمدى، وتتباعد نسبيًّا لذلك لا تنمو أشجارها في غابات كثيفة كالسنديان والصنوبر. ولذلك هي أشبه بشخصيّة اللبنانيّ خصوصًا متى علمنا أنّها تعاند أعتى الرياح وأكثر درجات الحرارة انخفاضًا، ما يجعل زراعتها صعبًا ونموّها بطيئًا ولكنّها متى نمت وكبرت واجهت التحديّات وعمّرت، والخطر الوحيد عليها هو فأس الحطّابين ومنشار التجّار.

الأحد، 27 سبتمبر 2009

المدارس الداخليّة

 Julie Christe

كنت أظنّ أنّ المدارس الداخليّة لم تعد موجودة، ربّما لأنّني لم أسمع منذ زمن بعيد عن تلاميذ يتعلّمون ويقيمون في مدرسة، أيّ يمضون أربعًا وعشرين ساعة من يومهم في مدرسة وبين غرباء، في حين أنّ سواهم يعود إلى البيت ما أن يقرع الجرس.
قلائل هم الناس الذين أعرفهم وكانوا تلاميذ في مدرسة داخليّة: خالي مثلاً كان تلميذًا في دير للرهبان، وكان يخبرني عن الحياة في مدرسة داخليّة وما زلت أذكر قوله أنّ اليوم الذي كان يسبق زيارة الأهل أولادهم في المدرسة هو أكثر الأيّام التصاقًا بذاكرته، لأنّ الطعام الشهيّ كان يوفّر لهذا اليوم فيوضع على المائدة مختلف أصناف الطعام والحلويات، وهكذا عندما كان الأهل يسألون أولادهم عن حالهم كان هؤلاء يتحدّثون عن وليمة الأمس وينسون ما كان يقدّم لهم خلال الشهر كلّه. مع وسائل الاتصال الحديثة صار في إمكان الأهل التواصل مع أولادهم ومعرفة تفاصيل حياتهم اليوميّة، ويراقبون ما يجري ولو من بعيد، ولم يعد ثمّة مشكلة في معرفة طرائق التربية وأساليب المعاملة، ولكن من قال إنّ التلاميذ لن يختاروا من الحقائق إلاّ ما يلائمهم ليعلموا أهلهم به، ولذلك تبقى مشكلة الاهتمام بالأولاد المبعدين عالقة. ولكن السؤال الذي لا يزال يحيّرني هو عن الأسباب التي تجعل والدين يفكّران في أن يرسلا أولادهما إلى مدرسة داخليّة، أكانت في بلادهما أم خارجها.
هناك نوعان من المدارس الداخليّة: تلك الفقيرة التي تشرف عليها مؤسّسات إنسانيّة ودينيّة وتستقبل أولادًا من ذوي الحاجات الخاصّة، أو الأيتام، أو الفقراء؛ وتلك التي تستقبل أبناء الطبقة الميسورة لتؤمّن لهم، بحسب ما يظنّه الأهالي، العلم والتربية والانضباط والانخراط في المجتمع والاتّكال على النفس (وعن هذا النوع يدور حديثي). وفي هذين النوعين، تبقى الغربة سيّدة الموقف، وسوف يمضي الأولاد ما تبقّى حياتهم وهم يعالجون أمراضهم النفسيّة التي تسبّب بها إبعادهم عن المنزل ودفء العائلة وإجبارهم على الانصياع لأوامر مسؤولين قد لا يكونون دائمًا على مستوى المسؤوليّة. كنت دائمًا أجد صعوبة في تقبّل المجتمعات المغلقة، وكنت أعتبر أنّ عمليّة تجميع أشخاص يحملون صفة معيّنة، مهما كان نوعها، في مكان واحد هو إلغاء لخصوصيّة كلّ فرد منهم وتغييب لهويّته ليصير رقمًا في سجّلات هذا المكان. وكنت أتمنّى دائمًا لو أنّ الحكومات تدفع المال للناس كي يهتّموا بأولادهم وكبارهم ومرضاهم ومعاقيهم بدل دفعه لبناء مؤسّسات تؤمّن لمن فيها الرعاية ولكنّها تعجز عن أن تعيد إليهم ذكريات غرفهم وأسرّتهم وحياتهم. وإذا كنت أفهم سبب الاضطرار إلى اللحوء إلى المستشفى أو المعهد الطبيّ أو مركز المعاقين أو السجن وسواها من أماكن يتجمّع فيها تحت عنوان واحد أشخاص معيّنون، فلا شكّ في أنّ إرسال الأولاد إلى مدرسة داخليّة أمر يفوق قدرتي على الفهم خصوصًا متى كانت الأسباب تختصر في كلمات وعبارات من مثل: السفر، العمل، الطلاق، صعوبة التعامل مع الولد، المستوى الاجتماعيّ يفرض ذلك، المستوى التربويّ أفضل، بالي مطمئنّ فهو في أيد أمينة (كأنّ البقاء مع العائلة لا يعني الأمان). وإذا كنت لم أنجح في إقناع نفسي بكلّ هذه الأسباب التي يقدّمها الأهالي الكرام لإقناع أنفسهم وأولادهم بصواب عملهم، فلن أعجز عن رؤية النتائج التي تظهر من اليوم الأوّل لدخول هؤلاء المبعدين عن أهلهم إلى غرفهم الباردة في المكان الغريب. ونحن نتحدّث هنا، لمن فاته الأمر، عن مراهقين لم يصلب عودهم ولم تنضج عاطفتهم، خصوصًا أنّ ثمّة عائلات تبقي أولادًا في البيت وترسل أخوتهم إلى المدرسة ما يحدث شرخًا نفسيًّا خطيرًا، قد لا يلتئم مدى الحياة.
وكي لا يأخذ الكلام اتجاهًا سلبيًّا وحسب، وفي محاولة لتقليل حجم الضرر الناتج عن هذه الإقامة الجبريّة في مكان لا يُعقل أن يرتاح فيه وإليه أيّ مراهق، يجب على الأهالي اختيار المدرسة الداخليّة بعناية شديدة، والبقاء على اتّصال بالمسؤولين فيها، والمراقبة والمحاسبة والاعتراض متى لزم الأمر. وعلى القيّمين على تلك المدارس الجمع بين السلطة الحازمة (لا التسلّط الأعمى) وبين الرعاية والاهتمام وتنويع النشاطات ومراقبة صحّة التلاميذ ولحظ أيّ تغيّر يطرأ على أمزجتهم أو مستواهم الدراسيّ أو سلوكهم ولذلك يجب أن يتميّز المهتمّون بهؤلاء التلاميذ بمستوى عال من النضج والمعرفة والصبر وروح الشباب وحسّ الابتكار. ولعلّ النقطة الأهمّ التي يجب الانطلاق منها هي إرسال الأولاد إلى مدرسة داخليّة بعد أن يتخطّوا مرحلة الطفولة، أي حصر ذلك بالمرحلة الثانويّة التي تهيّئهم للمرحلة الجامعيّة والسفر والاستقلال. وإلاّ فما الداعي لكي يتعب الوالدان في تحصيل المال من أجل العائلة، والعائلة مفكّكة وموزّعة لا يلتقي أفرادها إلاّ كي يتشاجروا ويتبادلوا نظرات الكره والحقد.

مراسم الدفن أهمّ ما في الحياة

Simberg

في الطائرة التي تحمله إلى لبنان، كان الشابّ العائد ليدفن والده يشعر بالقلق الشديد ما جعله عاجزًا عن الحزن ومنعه من استعادة الذكريات عن والده الراحل. فقد كانت مراسم الدفن تشغل باله خصوصًا أنّه لا يعرف الخطوات العمليّة التي يجب اتّخاذها في مثل هذه الحالات.
كان الوالد الراحل على خلاف مع إخوته بسبب إرث عائليّ وخلاف سياسيّ، فانقطع التواصل بين أفراد العائلة منذ أعوام، وعندما كان الشاب يعود إلى الوطن لزيارة والديه وشقيقاته لم يكن يرى أحدًا من أعمامه أو أبنائهم، ولذلك لم يكن يتوقّع وجود أحد منهم في استقباله على المطار أو لمساعدته في تنظيم جنازة والده. غير أنّ الأمر لم يكن على هذه الصورة طبعًا، ففي المطار وجد بعضًا من أقربائه الذين استقبلوه معزّين، وحين وصل إلى منزل والديه اكتشف أنّ أعمامه ونساءهم وأولادهم يحيطون بوالدته وأخواته بعدما اهتمّوا بأدقّ التفاصيل العمليّة، وحضّروا لشقيقهم الراحل مأتمًا مهيبًا ما جعل الناس يكبرون فيهم هذا الترفّع عن التباعد والحقد. ولكن ما أن انتهت الأيّام المخصّصة للتعازي حتّى "انفخت الدفّ وتفرّق العشّاق" على ما نقول في مثلنا الشعبيّ، وعادت الغربة التي ارتفعت جدرانها حجرًا فوق حجر لتقف سدًّا منيعًا بين أفراد العائلة.
لا تختلف هذه الحادثة عن كثيرات من مثيلاتها يكون فيها الناس أمام الموت غيرهم في المناسبات الأخرى، كأنّ سلطته تحكم قبضتها على أفكارهم وتجبرهم على التنازل عن مواقف مسبقة أو التراجع عن قرارات اعتبرت نهائيّة، فيتركون كلّ شيء ويشاركون في المآتم التي يرون فيها صورة رحيلهم، أو كأنّهم يعتبرون الاحتفال الجنائزيّ مناسبة لا يجوز للناس أن يسجّلوا فيها أيّ خلل بروتوكوليّ يتحوّل حديث المجتمع. وكانت المشاهد التي تلتقطها عيناي في المآتم دليلاً واضحًا على نظام يتّفق عليه الجميع ويحترمون شعائره وطقوسه وقوانينه، ويعتبون على من يقلّل من أهميّته أو يخفّف من وهجه. صحيح أنّ الأمور أخذت تنحو منحى مختلفًا مع رغبة المجتمع في تحديث نظرته إلى الموت، غير أنّ الموت في حدّ ذاته لا يزال اللغز العصيّ على الفهم فيلجأ الناس إلى أساليب مختلفة تجعلهم يتقبّلونه أو يتخطّونه أو يتّقون خطره ويبعدونه.
ولذلك نستطيع أن نفهم تصرّفات الناس المتناقضة في هذه المناسبات الحزينة، حين نرى كيف يميل بعضهم إلى الصراخ والعويل واللطم والرقص الهستيريّ، وفي المقابل يغرق آخرون في صمت غريب لا يجدون فيه ما يقولونه. وأكثر ما يدعو إلى التأمّل كيف أنّ أحدهم قد يشعرك في حزنه أنّه لا يعي ما يجري حوله ولا تعنيه الحياة بعدما خسر من خسر ثمّ تراه فجأة يهبّ لاستقبال أحد المعزّين المرموقين، أو يلفت الانتباه إلى أنّ الخادم تأخّر في تقديم القهوة، وأنّ ملابس فلانة غير لائقة وأنّ فلانًا لم يأت للعزاء بعد. ومن الواضح أنّ فهم ذلك ليس صعبًا وعصيًّا على التحليل حين نختصر الأمر بالصراع الدائر منذ تكوين العالم بين الحياة والموت، وكلاهما يتجاذب الإنسان ويدفعه إلى تصرّفات تدلّ على تخبّطه في البحث عن حلول لألغاز الوجود.
ليست الشعوب القديمة وحدها هي التي أمضت الحياة في إعداد مراسم الموت ومكانه وطقوسه، وليست مدافن الفراعنة وشعب "المايا" وأباطرة الصين إلاّ المجسّم العظيم الشاهد على أنّ الموت يرافق الحياة لحظة بلحظة. وبين الناس اليوم من يشتري مدفنًا فخمًا ولو كان لا يملك الشقّة التي يقيم فيها، وبينهم من يدعو كبار رجال الدين ويكرمهم بمبالغ كبيرة كي يرأسوا الصلاة على نفس والده ولو كان ذلك على حساب أقساط أولاده في المدرسة. وكم يثير الشفقة أن نشهد تنافسًا حادًّا بين زعيمين صغيرين في بلدة واحدة حول من يجمع أكبر عدد من رجال الدين ونوّاب المنطقة في مأتم أحد أفراد العائلة، حتّى تحوّلت المآتم، وخصوصًا عند اقتراب مواعيد الانتخابات، فرصة للتندّر والسخرية وإطلاق النكات والبحث عن الوجوه الجديدة المرشّحة وكم من الوقت أمضى أصحابها في رفقة أهل الفقيد أو الفقيدة.
لقد ترك القدماء مدافن عظيمة وجميلة، تذكّرنا بأنّها بنيت لشخص واحد وننسى غالبًا أنّ ذلك كان على حساب حيوات آلاف العمّال. ومن الواضح أنّ الأمور لم تتغيّر كثيرًا في عصرنا الحاليّ، وإن بمظاهر مختلفة.

الجمعة، 25 سبتمبر 2009

يوم الطالب عيد جديد في زمن المآسي



أعلنت وزيرة التربية والتعليم العالي السيّدة بهية الحريري تخصيص عيد سنوي لتلامذة لبنان يحتفلون به كلّ عام تحت اسم "يوم الطالب" وسيحدّد قريباً موعد هذا اليوم في شكل رسميّ.
لا شكّ في أنّ هذا الخبر أثلج قلوب التلاميذ الذين يحبّون الأعياد، وأكاد أراهم أمامي وهم يقفزون من الفرح بعدما نالوا يوم عطلة جديدًا يضاف إلى مواسم العطل وعندنا منها الكثير. وكم أتمنّى لو تقرّر وزارة التربية جعل هذا اليوم خلال فصل الصيف أو خلال يوم مدرسيّ عاديّ لأرى كم ستدوم فرحة الطلاّب بيومهم المنتظر.
حتّى الآن لم أعرف ما هي الغاية من الاحتفال بيوم الطالب، غير أنّي أرجو أن يكون موعد الإعلان الرسميّ عنه مناسبة لتوضيح أهدافه ونشاطاته، خصوصًا أنّنا مع انعدام الجديّة في موضوع التوجيه المهنيّ، ومع حيرة الطلاّب في الاختصاصات التي يجب أن يتوجّهوا إليها، وفي ظلّ الأزمة الاقتصاديّة، نخشى أن تضطّر وزارة العمل إلى تخصيص يوم سنويّ لطالب وظيفة مهما كان راتبها. فالطلاّب في لبنان ليسوا في حاجة إلى يوم احتفال جديد وهم لا يكادون يدخلون إلى الصفّ وينصرفوا إلى الدرس حتّى يحين موعد جديد لاحتفال جديد تقرّره طائفة أو يدعو إليه حزب أو يعلن عنه تيّار، فينصرف هؤلاء الطلاّب عن الدرس ويتبعون صوت العيد وصخب الاحتفال، وللعِلم من بعد ذلك طول البقاء ولكنْ... في غياهب النسيان. 
في مسرحيّة "دواليب الهوا" للأخوين رحباني وبطولة صباح نصري شمس الدين، يتبادل أهل القرية الرأي في قضيّة اختيار عيدهم وتطرح اقتراحات مختلفة كعيد الزيتون وعيد الحصاد وعيد الغلّة قبل أن يتّفق الجميع على عيد دواليب الهوا. وكانت "الأيّام" في بيوتنا وأعمالنا مخصّصة للعمل لا للعطل، فهناك يوم الطبخ وإعداد المؤن، ويوم العجن والخبز، ويوم تنظيف البيت، ويوم الذهاب إلى السوق، ويوم الاستحمام، ويوم غسل الملابس، ويوم الصلاة. ومن الواضح أنّ الأمر اليوم لا يختلف كثيرًا عن مواسم الأعياد وأيّام روزنامة العمل كما خلّد ذكرها المسرح اللبنانيّ وكتب التراث غير أنّها كلّها مخصّصة للعطل لا للعمل أو للكلمات لا للفعل: فعندنا الآن أيّام للأعياد الدينيّة وأيّام للأعياد الوطنيّة وأيّام للمناسبات الاجتماعيّة وأيّام لكلّ فرد من أفراد العائلة (عيد الأب، عيد الأمّ، عيد الطفل، عيد الجدّ) وأيّام لكلّ مهنة ولكلّ وظيفة ومناسبة (عيد المعلّم، عيد العمّال، عيد العلم، عيد الاستقلال، عيد الشجرة، ذكرى الشهداء، عيد الجيش، عيد المقاومة والتحرير، يوم الممرّضة، يوم السيدا، يوم المريض، يوم شرعة حقوق الإنسان، يوم البيئة، ...) والآن ينضمّ يوم الطالب إلى لائحة المناسبات التي تستدعي تأليف خطب ووضع كلمات لأغنيات وإطلاق شعارات وتعليق يافطات، كلّها من وحي المناسبة وتؤكّد على الآمال المعقودة على الطلاّب، خصوصًا أنّهم سيقفون كلّهم أمام أبواب السفارات طالبين هجرة هذا البلد، وعلينا أن نخصّص يومًا احتفاليًّا لوداعهم.
للأعياد معاني استذكاريّة يتوقّف عندها المرء ويستعيد رموزها وأفراحها وذكرياتها ويشحن نفسه بطاقتها المحيية ليتابع مسيرة الحياة. وللعطل مواعيد وضعت انسجامًا مع وتيرة العمل، فيرتاح الناس من ضغوط السعي لتحصيل العلم ثمّ الرزق ومن المنافسة الحامية للوصول إلى مراكز أكثر أهميّة. وكلّها مناسبات اجتماعيّة تسمح للناس باللقاء والاحتفال بنتيجة العمل المثمر وبالراحة وبالاستعداد لمرحلة جديدة. أمّا ما يحصل اليوم فليس فيه أيّ شيء من ذلك. فكم مرّة سمعنا حولنا من يقول: في يوم العطلة لا أريد أن أرى أحدًا، أريد أن أنام طوال النهار، وليس لي جلد على مكالمة أحد أو لقاء أحد. وكم مرّة سمعنا أنّ الأعياد لم تعد كما كانت، أو أنّ أفراد العائلة تشتّتوا على العيد وكلّ فرد سافر إلى بلد في رحلة استجمام، أو أنّ العطل تتباعد فيحلّ الإرهاق أو تتقارب فيصاب الناس بالملل.
وأخشى ما أخشاه، أن تفقد الأمور المزيد من طابعها الخاصّ وقيمتها المميّزة، وتتحوّل الأعياد والمناسبات والأيّام إلى حفلات خطابات النائمون فيها أكثر من المستمعين (خصوصًا بين الطلاّب)، والمستمعون أقلّ من المعنيّين، والمعنيّون فعلاً غائبون لأنّهم الوحيدون الذين يفهمون أنّ الأيّام كلّها أيّام للأمهّات والأطفال والآباء والأجداد والطلاّب والمعلّمين والعمّال والأرض والقدس والشهادة والتحرير، وحصر أيّ مناسبة في يوم يسمح بتغييبها في 364 يومًا، وهذا عكس المطلوب على ما أعتقد.

الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

صرنا شعبًا بلا تهذيب



من دون مقدّمات، هذه بعض مشاهدات من الحياة اليوميّة تكشف إلى أيّ حدّ تدنّى مستوى الأخلاق في لبنان:
1 - تحتلّ الشتائم، التي تحور حول الأعضاء الجنسيّة وتدور حول الدين، مساحة كبيرة من لغتنا اليوميّة خصوصًا على الطرق، حيث التسابق المحموم للوصول... إلى درك الانحطاط. ولا ننسى أنّ لإشارات اليدين والأصابع دورًا لا يستهان به في معجم الشتائم يستعمله السائقون لتسجيل أهداف في مرمى من لا يمتلك مثلهم فنون القيادة ... والأخلاق.
2 - الفنّ الذي يجري في دمائنا، بحسب ما يعترف به الفنّانون عندنا، لم ينفع في تهذيب ذائقة الناس، وكلّ التلفزيونات والإذاعات الدينيّة التي تدعو إلى التمسّك بأهداب الدين أثبتت بعد التجربة أنّ الأهداب الاصطناعيّة لا تساعد في توضيح الرؤية. فحين تصدح أم كلثوم من منزل يقف صاحبه على الشرفة ويرمي أعقاب السجائر على رؤوس جيرانه، وحين ترمي امرأة أنيقة أكياس النفايات من زجاج سيّارتها الفخمة، وحين لا يأتينا صوت فيروز صباحًا إلاّ مصحوبًا بأصوات من ينظّفون حناجرهم ويبصقون على الطرق، وحين تنطلق الشتيمة المقذعة لترافق الصلاة المنبعثة من مذياع سيّارة مزيّنة بالرموز الدينيّة، حين يحصل كلّ ذلك وسواه، نفكّر في أسى وخجل: ضيعان الدين والفنّ فينا. مع التنبيه إلى أنّ ذلك لا يعني أنّ المتديّنين والمتفنّنين هم أكثر تهذيبًا من المعجبين بهم.
3 - لا ينفع إن كنت مهذّبًا أن تقول: صباح الخير، لأيّ زميل يعمل معك أو عامل يشتغل تحت إمرتك، فذلك يعني أن هناك احتمالاً كبيرًا أنّك ستخوض مغامرة مجهولة المصير. إذ لا شيء يمنع ذلك الإنسان الذي ألقيت عليه تحيّة الصباح من أن يسدّ عليك الطريق ليمدّ معك حديثًا في مختلف شؤون الحياة وشجونها، وأن يخبرك في اليوم التالي نكتة بذيئة، وإن قلت له، ولو بتهذيب ولياقة، أنّك لا تحبّ هذا النوع من الأحاديث، صرت في نظره وعلى لسانه إنسانًا متكبّرًا متعجرفًا لئيمًا.
4 - لا تنتظر تصرّفًا لائقًا من بائعة صغيرة في متجر كبير إذا كانت أقنعت نفسها بأنّها مالكته، لأنّها قادرة على إشعارك لحظة دخولك المحلّ بأنّك عاجز عن شراء بضاعتها. فهي ستقيسك بنظرها صعودًا وهبوطًا باعتبار أنّها صارت متضلعة من علم التسوّق وأصبحت قادرة على معرفة الأثرياء من الفقراء، وستقول لك وهي تحيد عينيها عنك ازدراء: بعد ما بلّش الأوكازيون.
5 - إذا كنت مديرًا في عملك وكنت لسوء حظّك... مهذّبًا، فذلك يعني أنّك أوجدت حولك مئات "المديرين" الذين يساوونك في الجوهر. فكلّ من يعمل تحت إمرتك يصير لك زميلاً وصديقًا وأمينًا للسرّ ويستطيع بالتالي أن يأمر باسمك وأن يعطي نفسه صلاحيّات ليست له ويتغيّب عن العمل متذرّعًا بأنّك أرسلته في مهمّة خاصّة، وإن حاولت تذكيره بأنّك المدير أدار نحوك سهام غدره وصار عدوّك اللدود.
6 - الفاجر يأكل مال التاجر. هذا هو شعار اللبنانيّين البلا تهذيب. ما يعني أنّ حسابات المنطق تعطّلت أمام تفلّت الانفعالات الدنيا من عقالها وانطلاقها في شكل مدمّر. والفاجر في اللغة، هو المفارِق والمنشقّ عن طريق الصلاح، وإذا كان الفجر سمّي كذلك لانشقاق الظلمة عن الضياء، وإذا كان انفجار الأنهر سميّ كذلك لأنّ المياه فارقت أحد جانبي النهر، فذلك لا يعني أن نحتفل بكلّ انشقاق وانفجار. والتاجر الذي يحسب الأمور جيّدًا، ولا يقبل بالخسارة ولا يرضى بالتنازل عن حقّه مهما كلّفه الأمر، يسكت أمام "الفاجر"، بالدلالات التي صارت تحملها هذه الكلمة، ويشتري ولو بخسارةٍ صمتَ من لا يحسن إلاّ الزعيق والصراخ. ونحن في هذا الزمن الرديء صرنا أمام خيارين لا ثالث لهما: الانحياز إلى جانب التاجر حتى لو سرَقنا أو الخوف من الفاجر لئلاّ يطالنا رذاذ شتائمه. وفي الحالين نحن في موقع لا نحسد عليه.
* صحيفة النهار - الثلاثاء 22 أيلول 2009

السبت، 19 سبتمبر 2009

الإعلاميّ أهمّ من المعلّم


يحتفل تلاميذ لبنان في الأسبوع الأوّل من شهر آذار بعيد المعلّم. وعندما أقول إنّ التلاميذ هم الذين يحتفلون فلأنّهم هم الذين يستمتعون بيوم العطلة، أمّا المعلّم المسكين فيكون في رفقة مئات الأوراق أو الدفاتر التي عليه أن يصحّحها ما دام نال يوم إجازة. وكأن لا يكفي المعلّم ذلك الإحباط حتّى يأتيه من يجبره على الشعور بأنّه أقلّ أهميّة ومستوى من غيره من أصحاب الوظائف والمهن والمراكز، إذ ينظر إليه أهالي التلاميذ اليوم، ومع اقتراب عيده، نظرة غضب لأنّه السبب في إفلاسهم ولأنّه هو الذي يسرق لقمة الطعام من أفواه أولادهم.
فبعد إقرار الزيادة على الرواتب التي سرى مفعولها منذ بضعة أسابيع، أعلنت المدارس الخاصّة أنّها لن تتحمّل أعباء هذا القرار مع ما يفرضه من مفاعيل رجعيّة مكلفة، وستحمّل الأهالي مسؤوليّة دفع هذه الزيادات وإلاّ فليأخذوا أولادهم معهم إلى البيت. فحلّ عيد المعلّم والأهالي ينظرون إلى صاحب العيد في حقد وكره، والتلاميذ يرمقونه في سخرية ولؤم، والإدارات الحكيمة تبتسم في اطمئنان لأنّها رمت كرة الثلج أو النار بين الفريقين اللذين صارا متقاتلين بعد أن كانا متعاونين. ولنتخيّل في هذه الحال أجواء الصفّ: تلاميذ منقسمون بين 8 آذار و14 آذار، تلاميذ يوافقون على الزيادة لأنّ أهاليهم معلّمون ولأنّهم لا يدفعون شيئًا من القسط بحسب قانون يعفي أولاد المعلّمين من دفع الجزء الأكبر من الأقساط، وفي المقابل هناك تلاميذ يكرهون زملاءهم أبناء المعلّمين الذين يتعلّمون على حساب سواهم. وهناك معلّم يشعر بنظرات التساؤل والشكّ في عيون تلاميذه حين يسمعون كلامه عن رسالته التربويّة، وإدارة لا تتدخّل في شؤون الصفّ إلاّ للمطالبة بدفع المستحقّات. أمّا التربية فلا كرسي لها في الصفّ لأنّها لم تدفع القسط المستحقّ.
وفي خضّم هذا التخبّط المريع، يجد المعلّم نفسه، وعلى الرغم من كلّ التضحيات التي يؤمن بأنّه قدّمها، أمام نكات مكتوبة على لوح الصفّ وهي من نوع: الشغل مش عيب، كاد المعلّم أن يكون هبيلا (أهبل) (في ردّ على أحمد شوقي)، أو قد يجد نفسه مدعوًّا إلى حفل عشاء ضخم ومكلف تقيمه المدرسة على شرفه في أفخم الفنادق، وخلال العشاء يلقي رئيس المدرسة كلمة يتحدّث فيها عن تضحيات المعلّم وصعوبة مكافأته ولكنّ الظروف ستجبر الإدارة على صرف الكثير من المعلّمين في آخر السنة. فتخيّلوا معي أيّ عشاء تكريميّ هو هذا العشاء!
ومع أنّ عددًا لا بأس به من المعلّمين تحوّل إلى الصحافة والأدب، نجد أن لا أحد منهم تبنّى قضيّة المعلّم وطالب بتأمين الحدّ الأدنى من الكرامة والأمان له. والإعلاميّ نفسه يعلم كم عانى في عمله كمعلّم وكيف اختلفت نظرة الناس إليه حين انتقل إلى مجال آخر. ويروي أحد المسؤولين الإداريّين في إحدى المحطّات التلفزيونيّة الرائدة، وهو في الوقت نفسه أستاذ جامعيّ، أنّ تلميذًا من تلاميذه هتف مبتهجًا: واو...يعني إنتَ مهمّ إستاذ. ويخبر مذيع في نشرات الأخبار، وهو مدرّس لغة، أنّ أمّهات تلاميذه يطلبن مقابلته لا ليسألوه عن أوضاع أولادهم الدراسيّة كما خيّل إليه في البداية، بل ليتعرّفوا شخصيًّا على المذيع الوسيم الشابّ المشهور، وكان من السهل عليه أن يكتشف أنّ أناقة الأمّهات اللافتة والأسئلة "غير التربوية" لا تدلّ إلاّ على أنّ الإعلاميّ الذي فيه أهمّ من المعلّم. ونضيف نحن: وكذلك الطبيب، والمحامي، والقاضي، ورجل الدين، والمهندس، وضابط الشرطة، والممثّل، والمغنّي، وبطل كرة السلّة الذي ما أن يُدخل الكرة في السلّة حتّى يَدخل في حسابه مبلغ كبير من المال لو علم معلّمه بقيمته لدخل في غيبوبة ما رضي بالخروج منها.

الجمعة، 18 سبتمبر 2009

منوال يونس وأهمّ درس في الفكر



مع اقتراب موسم الانتخابات، وضعت أمامي لائحة بالأسماء الأكثر تداولاً في سوق الصرف الإعلاميّ وأروقة أولي الأمر المفترض أنّهم يعملون على إنقاذ هذا البلد. فلم أجد اسمًا واحدًا لامعًا في عالم الفكر والإبداع، أو صاحب مؤلّف واحد في الدراسات الدينيّة أو الاجتماعيّة أو السياسيّة أو العلميّة أو الاقتصاديّة أو الفنيّة. فأصحاب الأسماء المتداولة هم من حملة الشهادات طبعًا وهذا أقلّ الإيمان، أو من أولاد العائلات التي تتوارث النيابة أو من قادة الأحزاب الذين لم يتّخذوا قرارًا نهائيًّا بعد في شأن عقائدهم المطّاطة، أو من مدّعي الثقافة الذين يوهمون زائريهم بأنّ الكتاب رفيقهم الدائم ولا يستقبلون أهل الإعلام وسائر الضيوف إلاّ في مكتب تزّينه لوحة جداريّة كبيرة اسمها "مكتبة".
في عزّ هذا الصخب الانتخابيّ، وفي عتمة هذا الغياب المشين لسادة الفكر وسيّداته عن ساحة العمل السياسيّ، شرّفني أحد سادة الفكر اللبنانيّ، وعندي الرجاء في ألاّ يكون الأخير، بدعوتي إلى لقاء عقب قراءته مقالتي التي نشرت في صحيفة "النهار" اللبنانيّة بعنوان: تاريخ الموارنة ما بين الثابت والمتحوّل. إنّه الدكتور منوال يونس، المفكر الذي بلغ من العمر عتيًّا ولا يزال يتمتّع بالوعي الفكريّ والنشاط في القراءة والمتابعة والكتابة واستقبال طلاّب الجامعات واضعًا خبرة عمره وعصارة فكره في تصرّفهم وكلّه أمل في ألاّ تنطفئ جذوة الإبداع في هذا البلد، وأن يستعيد اللبنانيّون دورهم الحضاريّ الرائد.
يطول الحديث في استعادة ما قيل خلال هذا اللقاء، خصوصًا أنّ مضيفي يملك من الانسياب الكلاميّ من دون خطابيّة منفّرة، ومن الإحاطة بمختلف جوانب الفكر من دون استعراض مجّاني، ما جعل جلسة الحوار الفكريّ تتشعّب لتتناول الفلسفة وعصر النهضة والواقع المارونيّ ونظام الدولة الأمثل كما يراه وصولاً إلى مقالاته التي تتهافت عليها الصحف والمجلاّت المتخصّصة في أوروبا وإسبانيا تحديدًا وفيها دراسات عن الوجود العربيّ في الأندلس وأثر ذلك على النهضة الأوروبيّة.
غير أنّ الدرس الأهمّ الذي يتعلّمه المرء من مجالسة أهل الفكر هو قبول الآخر والاستماع إلى رأيه واحترام إبداعه بغض النظر عن فوارق العمر والخبرة والممارسة السياسيّة (كان نائبًا لدورتين ومرشّحًا لرئاسة الجمهوريّة)، والدكتور منوال يونس، الذي لم تمنعه أعوامه المثمرة أو إنجازاته الفكريّة العالميّة أو مرتبته الاجتماعيّة عن الاتّصال بي وتهنئتي على مقالاتي ودعوتي إلى فنجان قهوة في منزله الجميل والأنيق من دون بهرجة، علّمني أنّ الكبار في عالم الفكر هم الذين يعرفون أنّ القمّة تتسع لهم ولسواهم وأنّ دورهم الأساس هو في تسليم الشعلة إلى الأجيال الجديدة وأنّ الاحتفال بكلّ صاحب فكرة أو فكر هو ما يضمن بقاء الشعوب واستمرار الأوطان.


إنّ العمل الإبداعيّ يضعنا في مواجهة حقيقيّة مع أجمل ما في الآخرين ومع أبشع ما فيهم، فأنا غالبًا ما التقيت وفي جلسة واحدة أحيانًا بمفكّر كبير أضاف إليّ الكثير من فيض علمه ومحبّته وتواضعه، وصحافيّ طفيليّ يخشى إن اعترف بوجودي أن ألغي وجوده أو أفضح سرقاته الأدبيّة. ومع ذلك، لا نستطيع إلاّ أن نحمل صليب الإبداع، كلّ على قدر قامته وعمره وموهبته، ونمشي صوب قيامة المجتمع، ونحن واعون إلى أنّنا على طريق الجلجلة سنلتقي بمن يرافقنا وبمن ينكرنا، بمن يمسح وجهنا من العرق والدم وبمن يسخر منّا، بمن يتّصل بنا ليدعونا إلى فنجان قهوة أو وظيفة محترمة أو احتفال تكريميّ وبمن يضع الخلّ في أفواهنا والشوك على رؤوسنا والحربة في جنبنا. غير أنّ الكلمة، التي كانت في البدء، ستدحرج الحجر عن القبر ما دامت ابنة الحقّ والخير والجمال.

الجمعة، 11 سبتمبر 2009

الطيّب صالح وجائزة النبل العربيّة



يوم آخر، ورحيل آخر. كأنّ الشعراء والروائيّين تواعدوا على الرحيل معًا، شبّانًا وشيوخًا، إلى آفاق جديدة وعوالم أكثر جمالاً وأكثر سعادة وأكثر حريّة. في كلّ يوم نعي، وبعدما كانت القبائل العربيّة قديمًا تحتفل ببروز شاعر بين أفرادها، ها نحن نندب كلّ يوم شاعرًا أو روائيًّا أو فنّانًا من غير أن يكون عندنا كبير ثقة في أنّ الذين سيأتون بعدهم سيملأون هذه الفراغات الهائلة.
غير أنّي أريد اليوم أن أنظر إلى موت الطيب صالح من زاوية أخرى. فهذا الروائيّ السودانيّ الذي تعرّفت إلى رواياته منذ أن كنت على مقاعد الدراسة، يدفعني اليوم إلى تقديم التحيّة إلى هذه اللغة العربيّة الجميلة التي جمعتني أنا اللبنانيّة المسيحيّة المارونيّة بذلك الكاتب السودانيّ المسلم، على الرغم من فارق العمر واختلاف التجربة. وحين أنظر إلى الأمر من هذه الناحية، أكتشف أنّ ذلك، بمعزل عن الشعور بالأسى تجاه كلّ موت، رائع وغريب ولامحدود. ففي ذاكرتي الآن مثلاً وعلى سبيل المثال لا الحصر وفي خليط من الموتى والأحياء والأفارقة والأسيويّين والرجال والنساء: نجيب محفوظ من مصر، وغسّان كنفاني من فلسطين، ومحمد شكري من المغرب، وتوفيق يوسف عوّاد من لبنان، وحنّا مينا من سوريا، وأحلام مستغانمي من الجزائر، وغازي عبد الرحمن القصيبي من السعودية، وليلى العثمان من الكويت، وغيرهم وغيرهنّ من الأسماء التي لا مجال لحصرها. هذا في الرواية. ثمّ يقفز من الماضي شعراء البوادي والحواضر من مختلف العصور، ليتكلّموا معي باللغة نفسها فيجيبهم شعراء مخضرمون ومعاصرون من مختلف المدارس والتيّارات والاتّجاهات والانتماءات، فضلاً عن الدارسين والفقهاء والمؤرّخين وعلماء الاجتماع والرحّالة والفلاسفة، ومع ذلك ننتظر كلّنا أن يُمنح واحد منهم جائزة نوبل للآداب من دول أجنبيّة. أليست مفارقة كبرى – معيب أنّها صارت تقليديّة في بلادنا – أن تتجاهل السودان الطيّب صالح خلال حياته وتمنع روايته الأكثر شهرة ثمّ تطالب بأن يدفن في أرضها وأن يقام له مأتم رسميّ فيها؟
لماذا ننتظر التكريم من الغرب، وفي الغرب كثر يرفضون الجوائز، أأدبيّة كانت أم فنيّة، معتبرين أنّها تمنح لغايات سياسيّة وأهداف خاصّة ومصالح تخدم بعض الدول؟ وما الذي يمنع العرب عن إنشاء جائزة تفوق في قيمتها الماديّة وفي أبعادها المعنويّة جائزة نوبل؟ فلا المال ينقصهم، ولا أصحاب الكفاءات والمواهب، فإلامَ يبقى شعراؤنا وأدباؤنا على لوائح الانتظار يقدّمون الطلب تلو الطلب لتتكرّم عليهم لجنة منح الجوائز بواحدة؟
في المقالات التي حيّت الطيّب صالح بعد وفاته تأكيد على أنّ روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" التي أسسّت لشهرته اعتبرت عام 2002 من أفضل مئة رواية في التاريخ الإنسانيّ وفق قرار اتّخذه مئة من كبّار الكتّاب الذين ينتمون إلى 54 دولة، وعلى أنّه فيها سبق سواه في الحديث عن صراع الحضارات وأنّه فضّل الحياة على الكتابة فكان إنتاجه قليلاً بالنسبة إلى عمره المديد ومع ذلك ترك أثره في الأدب والحياة بسبب إبداعه وشخصيّته. ويؤكّد رعيل الأدباء الذين كانوا مقرّبين منه على نبله وأخلاقه وحسّه الفكاهيّ وانسجامه مع مبادئه وأفكاره وعروبته وإسلامه من دون أن يتقوقع على ذاته أو يرفض الآخر أو يخشى القراءة النقديّة للدين والتاريخ والمجتمع. ومحاضراته ومقالاته وأحاديثه الصحافيّة التي تسمح لنا نحن القرّاء بأن نستكشف ذلك، تؤكّد على هذا المنحى الفكريّ الشموليّ الذي طبع أدبه من دون أن ينسيه جذوره أو يبعده عنها.
غير أنّ السؤال الذي يخطر الآن على البال ليس عن جائزة نوبل وحرمان العرب منها لولا الاستثناء المصريّ الذي يثبت القاعدة، بل إن كان ثمّة أدباء آخرون في السودان لا علم لي بهم، وعند هذا السؤال يبدو موت الطيّب صالح أكثر إثارة للحزن والأسى!

الخميس، 10 سبتمبر 2009

أيّها الشعراء! توقّفوا عن هذا الموت السخيف (إلى بسّام حجّار)


بسّام حجّار


لم يعد الشعراء العرب يموتون من الحبّ، وتوقّفوا عن الموت في ساحات القتال، وما عاد بيت من الشعر يقتلهم ولا كتاب جريء يوصلهم إلى النهاية المحتومة، صاروا يموتون من القرف من الحياة، لا بل صاروا يستسلمون لموت بطيء يتسلّل إلى خلاياهم ويأكلها خلية تلو خلية قبل أن يوصلهم جلدًا وعظمًا إلى باب القبر.
منذ يومين، حين انضمّ الشاعر اللبنانيّ المثقّف بسّام حجّار إلى قافلة الشعراء الموتى، قلت في نفسي لن أكتب عنه، ولن أنضمّ إلى سلسلة الندّابين الذين يجدون في موت أحدهم مادة لكتابة مقالة تنتظرها الصحيفة. غير أنّ غضبًا ما جعلني أتراجع عن قراري، وأفهمني أنّ سواي من الذين يكتبون إنّما فعلوا ذلك وفيهم ما فيّ من النقمة على هذا الموت السخيف الذي لا يستحقّه الشعراء، لا لأنّهم أفضل من غيرهم أو أعلى مرتبة أو أكثر قيمة في سلّم الإنسانيّة، بل لأنّهم يموتون كلّ يوم مليون مرّة كما سبق وقلت عن منصور الرحباني حين مات موته الأخير.
وبطريقة أو أخرى، كلّ الناس شعراء، وخصوصًا الأطفال.
ضاقت رفوف مكتبتي بقصاصات الصحف التي تودّع الشعراء، وها أنا في مرحلة الذاكرة الإلكترونيّة أترك فسحات لما يقال في رثاء من يرحل منهم في عصر ما بعد الورقة والقلم. وبين غبار المكتبة وبياض الشاشة صارت أعداد الذين هناك تفوق أعداد الذين هنا، ومالت كفّة الشعر إلى حيث لا صراع طويلاً مع المرض ولا خوف على الحريّة ولا موت يحصد الأطفال. في كلّ مرّة يصل إليّ خبر موت أحدهم أقول في نفسي: مات قصدًا. لم يعد يريد الصراع من أجل البقاء، ولا احتمال بشاعات هذا العالم، ولا السعي لتحصيل الرزق، ولا مقاومة السلطة، ولا تلقّي العلاج، ولا متابعة الأخبار، ولا محاولة إصلاح هذا الكون، ولا تحمّل السخفاء وثقيلي الظلّ، ولا الاستماع إلى خطابات السياسيّين وما يليها من إطلاق رصاص ابتهاجًا بكلّ هذا الموت.
أنا لم أعرف بسّام حجّار معرفة شخصيّة كما لم أعرف سواه من الشعراء، أنا أعرف ما كتبوه وما ترجموه وما أضافوه إليّ. لقد كنت دائمة الحرص على الابتعاد عنهم خشية أن تخدش نزعةٌ إنسانيّة فيهم، طبيعيّةٌ هي، الشعرَ (أو ما يصبّ فيه) الذي تعاملت معه كأنّه من عالم آخر: نظيف، وسامٍ، وهشّ، ورقيق، وجميل، وأنيق، وذكيّ، ومحبّ، وبريء. وكانت بعض التجارب القليلة كافية لتطلق صفّارة الإنذار لتنبهّني إلى أنّ القصيدة قد لا تشبه شاعرها أو أنّ الشاعر ليس نسخة طبق الأصل عن قصيدته. غير أنّي الآن أتمنّى لو التقيت بسّام حجّار، لعلّ الإنسان الذي فيه، بميوله ورغباته وأخطائه وعيوبه، خفّف من وطأة موت الشاعر المثقّف. ربّما كان تصرّف ما من تصرّفاته برّر لي موته، ربّما كان متكبّرًا، ربّما كان ثقيل الظلّ، ربّما كان أيّ أحد آخر يجعلني أضعه في خانة الذين لا يعنيني أمرهم ويموتون كلّ يوم، في كلّ مكان في العالم، وأقول في نفسي: هذه سنّة الحياة. الآن لن أعرف كيف كان بسّام حجّار الإنسان إلاّ من خلال ما كتبه عارفوه عنه، وسيبقى رحيل الشاعر الشابّ موجعًا ولن يخفّف منه أنّ شعره باق، وأنّه أغنى المكتبة العربيّة بالترجمات ذات المستوى العالي الرفيع. غير أنّني في هذه اللحظة لا يسعني سوى أن أفكّر في أهله وأصدقائه وزملائه، وأتساءل بماذا يداوون رحيله!

هل ينتقم الرجل من هيمنة فيروز على الأعمال الرحبانيّة؟



نحن، اللبنانيّين، مصابون بحالة شعريّة من الصعب أن نخرج منها في سهولة اسمها الأخوان رحباني وفيروز. قد تختلف عوارض هذه الحالة بين شخص وآخر كأن يكون الواحد منّا مصابًا بجرعة زائدة من فيروز، وآخر بهلوسة فكريّة اسمها عاصي، وثالث بميل عاطفيّ نحو منصور، إلاّ أنّنا في النهاية رحبانيّو الهوى والانتماء.
غير أنّ ذلك لا يمنع بعضنا من دراسة هذه الحالة وتحليلها في عمق ومنطق بعيدين عن الهوس الذي يرافق إعجاب المراهقين بنجوم الغناء. فإذا كانت المدرسة الرحبانيّة فكريّة جماليّة فلا يجوز أن نتعامل معها بغير هذا الأسلوب، أي أن ندرس نتاجها انطلاقًا من هاتين الناحيتين الفكريّة والجماليّة. وليس غريبًا أن نجد عددًا كبيرًا من الدراسات والأطروحات الجامعيّة عالج الإنتاج الشعريّ والمسرحيّ الرحبانيّ، ولا بدّ من أن يزداد ذلك مع دخول فنّهما المناهج الدراسيّة.
منذ انفصال فيروز عن عاصي، وابتعادها عن مسرح الأخوين، بدأت الشخصيّات الرجاليّة إذا جاز التعبير تعمل على فرض نفسها بعدما كانت الشخصيّة النسائيّة الوحيدة (فيروز) هي المهيمنة على مختلف الأعمال. لذلك رأينا في الأعمال "الما بعد فيروزية" اتجاهًا إلى البحث عن الرجل/البطل، وإلى جانبه شخصيّات نسائيّة متغيّرة، ولكن من دون نجوميّة حصريّة لواحدة معيّنة. ولذلك مرّت هدى (شقيقة فيروز) ورونزا وكارول سماحة ولطيفة التونسيّة وستمرّ هبة طوجي بطلة مسرحيّة "عودة الفينيق"، من دون أن تكون لواحدة منهنّ الهيمنة التي كانت لفيروز. ولم يستطع غسّان صليبا، مهما حاولنا أن نكون منصفين معه، أن يتحوّل النجم الساطع في أعمال منصور الرحباني وأولاده، كأنّ المطلوب منه أن يتقاسم البطولة مع سواه من الممثّلين والمطربين فكان أنطوان كرباج ورفيق علي أحمد ودخل على الخطّ حاليًا دريد لحّام وجورج خبّاز في فيلم "سيلينا" ليسيطروا بخبرتهم العالية على حضور ميريام فارس الذي تطرح حوله علامات استفهام كثيرة.
حين مات نصري شمس الدين ووضع نعشه على سطح سيّارة تاكسي حملته من الشام حيث كان يعمل خلال الحرب اللبنانيّة، وقطعت به المعابر والحواجز لتوصله من دون احتفال أو حشود إلى مدافن قريته، كانت ذاكرتنا تستعيد شخصيّة الأمير فخر الدين المعني الكبير التي خلّدها بأدائه وصوته الرائعين في مسرحيّة تحمل اسم الأمير. ولعلّها المرّة الوحيدة التي شعر فيها نصري شمس الدين بأنّ حقّه كفنّان أعطي له، ليعود بعد ذلك ليجبر على الانسحاب إلى أدوار أقلّ أهميّة، وإن كنت أؤمن شخصيًّا بأنّ الدور ولو صغر حجمه يبقى لافتًا إن قدّم في براعة واحتراف. المهمّ في هذا المجال أنّ الأخوين رحباني لم يكتبا نصًّا آخر لبطولة رجاليّة لتبقى فيروز سيّدة مسرحياتهما وأفلامهما، وفي هذا المجال يؤكّد الدكتور نبيل أبو مراد في كتابه" الأخوان رحباني: حياة ومسرح" على أنّ "المسرح الرحبانيّ هو مسرح فيروز بالدرجة الأولى، فحولها تمحورت الأحداث والأفكار والمواقف". فهل أتى الوقت الذي فيه تنتقم الشخصيّات الرجاليّة منها وتستعيد حقّها المسلوب؟ الأحاديث التي أدلى بها الممثّلون في الأعمال الرحبانيّة التي قدّمت بعد ابتعاد فيروز توحي بأنّ الأدوار التي يقدّمونها ما كانت لتأخذ حقّها من الاهتمام لو كانت فيروز موجودة، وفي هذا الإطار نضع كلام الفنّان دريد لحّام في كلامه على دور الشحّاذ في فيلم "سيلينا" إذ يقول إنّ الشحّاذ هو فيلسوف المدينة وكان يتمنّى أن يؤدّيه. وعن هذه الشخصيّة يقول المفكّر فوّاز طرابلسي في كتابه: "فيروز والرحابنة:مسرح الغريب والكنز والأعجوبة": "ويبقى الشحّاذ وهو الأكثر تمثيلاً للرسالة الرحبانيّة في هذه المسرحيّة. إنّه مجسّد الحلم. هو متفوّق على الملك وحرّ أكثر منه، لأنّه يملك ما لا يملكه الملك: الحلم. لهذا السبب يرفض أن يكون ملكًا". ولكنّ السؤال الذي يخطر على بالي:هل كان دريد لحّام سيؤدّي هذا الدور لو كانت فيروز هي البطلة؟

الأربعاء، 9 سبتمبر 2009

الكاتب المجهول خلف سواه


Kramskoy 1885
بورتريه الفيلسوف فلاديمير سولوفيوف


في أماكن كثيرة من العالم، لا يتحرّج رؤساء الدول والقادة من الإعلان عن أعضاء فريق العمل الذين يساعدونهم في العمل الإداريّ وينصحونهم ويديرون نشاطاتهم السياسيّة. لا بل من السهل جدًّا أن نعرف من يقف وراء هذه الخطّة الاقتصاديّة لذاك الرئيس، ومن رسم الخطوط العريضة للحملة الانتخابيّة لذلك المرشّح، ولا يعتبر الأمر من الأسرار التي لا يكشف عنها إلاّ مع مرور الزمن.
زعماؤنا لا يحبّون ذلك، ولا يعلنون عنه في شفافيّة ووضوح، ولن يغيّر رأيي في الموضوع مواقفهم. غير أنّني لا أستطيع إلاّ أن أحترم أولئك الذين يرضون بالبقاء خلف الكواليس، خصوصًا أولئك الذين كتبوا خطابات سجّلها التاريخ، وحفظها الناس، وتناقلتها الأقلام، ومع ذلك قبلوا أن تغيب أسماؤهم، ويحصد سواهم التصفيق، لا بل يشاركون في التصفيق والإعجاب من دون أن يقولوا أنّهم أصحاب هذه الكلمات ومطلقو هذه الشعارات. من الطبيعيّ أن نردّ على هذا الكلام قائلين إنّ كتابة الخطب وظيفة كسواها من الوظائف يتقاضى من يعمل فيها راتبه كأيّ موظّف آخر. هذا كلام صحيح، غير أنّني أعترف بأنّني لا أرى الكتابة كفعل إبداع وظيفة كسواها، وأعجز عن إقناع نفسي بأنّ هذه الكلمات التي تنال الإعجاب وتوصل قارئها إلى مناصب رفيعة وتدخل كتب الأدب والتاريخ مجهولة الكاتب ولا نعرف شيئًا عمّن حبّرها في صمت وتنازل عنها في مقابل أجر.
خلال الحملة الانتخابيّة الأميركيّة الأخيرة، تمتّ الإشارة أكثر من مرّة إلى من يكتب خطب المرشّحين، لا بل تحدّثت وسائل الإعلام عن أنّ الرئيس الأميركيّ السابق جورج بوش سمح لكاتب خطبه بكتابة خطب المرشّحة لمنصب نائب الرئيس سارة بايلن. ولم يجد أحد في الأمر ما يدعو إلى إحراج الرئيس أو المرشّحة، بل بدا الأمر طبيعيًّا كالإعلان عن اسم أيّ موظّف آخر. ولا يخفى أنّ كاتب (أو كاتبة) هذا النوع من الخطب يحتاج إلى كثير من الدراسة والمعلومات وملاءمة النصّ لواقع الحال والانصياع لرغبة الشخصيّة التي يكتب لها ومراعاة خصوصيّتها لكي يأتي النصّ على قدر كبير من المصداقيّة تجعل الجماهير مقتنعة به. وهذا جهد مضاعف يقوم به الكاتب ويتطلّب الكثير من الوقت وملاحقة التطوّرات ومواكبة الأحداث والبقاء في حال من التأهّب لتلبية نداء الواجب. ولا يستطيع أيّ زعيم مهما بلغ مستوى علمه وثقافته أن يحيط بكلّ هذه الأمور، أو أن يجد لها الوقت الكافي. وثمّة رؤساء معدودون في العالم كانوا شعراء أو صحافيّين وكانوا قادرين على كتابة خطبهم من دون مساعدة، إلاّ أنّ المواعيد والارتباطات ما كانت لتسمح لهم بالتفرّغ لتدبيج نصوص في مختلف المناسبات. صحيح أنّ لصاحب السلطة الحقّ في أن يحذف أو يعدّل أو يضع الخطوط العريضة لما يريد قوله، إلاّ أنّ الأمر يحتاج إلى فريق عمل خبير بنفسيّات الجماهير التي يتوجّه إليها الخطاب، وهي قد تتغيّر بين منطقة وأخرى أو بين حيّ وحيّ وبين يوم وآخر. وهذا ما لا يستطيع شخص واحد مهما بلغ شأنه أن يقوم به.
فإلى هؤلاء الجنود المجهولين، الذين عبروا في ليل السياسة وبين خيطان السلطة المتشابكة، وبقيت كتاباتهم ونصوصهم وخطبهم خالدة بتواقيع سواهم، ألف تحيّة، وسؤال واحد لا أنتظر جوابًا عليه: كيف تنازلتم عن أفكاركم وكلماتكم وخصوصًا لمن بدا واضحًا أنّه لا يعرف شيئًا عن مضمونها وأحيانًا لا يحسن قراءتها ولا يفهم أبعادها؟

الاثنين، 7 سبتمبر 2009

مذيعات الربط ما بين الصورة والصوت



ثمّة وظائف يعجز العقل عن فهم أهميّتها ودورها وما تقدّمه للمجتمع، وربط البرامج التلفزيونيّة واحدة منها، فأنا لم أستطع حتّى اليوم أن أفهم الإصرار عند بعض المؤسّسات الإعلاميّة على توظيف فتيات يربطن البرامج ببعضها ولا شيء غير ذلك.
أوّلاً، لماذا الإصرار على أن يكون من سيخبرك بما ستشاهده لاحقًا صبيّة لا شابًا؟ فإذا كانت الوظيفة تهدف إلى الإعلان عن برنامج ما فما المانع من أن يفعل شاب ذلك؟ ثانيًا، ماذا يفيدني كمشاهدة أن تطلّ صبيّة حسناء لتطلب منّي أن أبقى برفقة هذه المحطّة وأنا أصلاً أشاهد هذه المحطّة، ولو كنت أشاهد سواها لما سمعتها ورأيتها؟ ثالثًا، هل يصغي أحد فعلاً للعبارات المستعادة آلاف المرّات والتي تحاول مذيعة الربط أن توحي إليك بأنّها ألّفتها للتوّ، وهل قاس أحد مستوى السخف في هذه العبارات؟ فالمحطّات الغربيّة ذات الخبرة والاحتراف تخلّت عن هذه الوظيفة، واكتفت بصوت يقول لك في شكل مباشر ما هو البرنامج التالي، من دون عواطف أو كلمات شكر. أمّا عندنا فيتمّ تسجيل مشاهد الربط وكلماته، مع ما يعني ذلك من مراقبة أزياء وتسريحة شعر وزينة وجه وديكور ملائم للمناسبات، وادّعاء تأليف عبارات جديدة لمناسبات تستعاد كلّ سنة، وكلمات ممجوجة تنتقل من محطّة إلى أخرى ومن سنة إلى أخرى وهي لا تحمل أيّ جديد أو مبتكر. وإذا حاولت المذيعة أن تطعّم أسلوبها بمنوّعات تبعد الرتابة، كانت النتيجة ادّعاء في غير محله ووقته، أو خليطًا عجيبًا من أفعال الأمر ونظرات الإغراء وابتسامات التواطؤ، في غياب الثقافة (لا الشهادات) والنظرة الذكيّة.
أمّا في المناسبات الرسميّة وخصوصًا المأساويّة منها والتي تستدعي مقالاً يناسب المقام، فتبدو المذيعة حائرة: فهي لا تستطيع إلاّ أن تبتسم وأن تبدو مشرقة وسعيدة ومتفائلة، وعليها في الوقت نفسه أن تقول كلامًا لا يلائم الصورة، فيبدو المشهد غاية في السخف والاستهتار بالعمل الإعلاميّ. فضلاً عن ذلك، لا تنسى مذيعة الربط أن تذكّرنا كلّ ليلة، وخصوصًا قبل نشرات الأخبار، بأنّ فريق العمل في المحطّة حضّر لنا مجموعة من التحقيقات والأخبار ونحن مدعوون للاستماع إليها وتقدير جهود المراسلين المنتشرين في كلّ أنحاء العالم لكي ينقلوا إلينا الخبر الأكيد وتحرص على شكرنا "على حسن المتابعة". وحين نسأل عمّن يكتب هذه العبارات الساذجة يأتي الجواب أنّ الأمر يختلف بين محطّة وأخرى، ففي بعضها المذيعات هنّ اللواتي يؤلّفن ما سيقلنه، وفي غيرها هناك من يراقب ويدقّق، وفي الحالين، تمرّ مذيعة الربط بين برنامجين لتسمح لنا باستراحة نقضي فيها حاجة قبل أن نعود لنستقرّ أمام الشاشة الصغيرة.
من بين مذيعات الربط اللبنانيّات الرائدات اللواتي أعطين هذه الوظيفة أبعادًا فنيّة وثقافيّة وجماليّة وانطلقت بعضها إلى مجالات أوسع، تفرض الإعلاميّة "كابي لطيف" نفسها على ذاكرتي وهي تنقلنا من برنامج إلى آخر حين كانت إحدى نجمات تلفزيون لبنان السعيد الذكر. فقد استطاعت هذه السيّدة في بداية حياتها المهنيّة أن تجعل هذه الوظيفة البسيطة فسحة للتنوّع والابتكار، حتّى أنّنا كنّا ننتظر إطلالتها لكي نعرف ماذا ستقول فضلاً عن فضولنا لرؤية الشكل الأنيق الذي كان يتجدّد مع كلّ إطلالة. وهذا ما سمح لها لاحقًا بالانطلاق في المجال الإعلاميّ عربيًّا وعالميًّا عبر إذاعة "مونتي كارلو"، فحصدت الكثير من الجوائز تقديرًا لكفاءتها وتميّزها. أمّا الآن، فأجد صعوبة في تذكّر وجوه مذيعات الربط، كما أعجز عن ربطهنّ بالمحطّات التي فيها يعملن، فكأنّهنّ مستنسخات من خلية واحدة. وهذا يعني أنّ أداء الوظيفة، أيّ وظيفة، هو ما يجعلها ذات مستوى وصاحبة دور أكان هذا الدور ترفيهيًّا أو تثقيفيًّا، وليس هذا ما نراه على شاشاتنا، إذ لا صوت ينقلنا إلى عالم الفكر ولا إطلالة تعلق في البال.

الأحد، 6 سبتمبر 2009

لغة الندب




لغة الندب والرثاء هي اللغة التي نستعملها في أحلامنا. هي لغة الثكالى التي لا تبحث عن صور جديدة ولا تفكّر ولا تتفلسف ولا تدّعي ولا تمثّل ولا تخترع كلمات. هي لغة لا يعنيها إن سجّلها التاريخ أو احتفلت بها محافل الأدب والمتأدّبين، هي لغة متفلّتة من كلّ رقابة، مجنونة، باكية، متفجّعة، بسيطة، عفويّة، متسائلة، حيرى، منفعلة، مندفعة. لا تحمل معجمًا، ولا تعرف قواعد المشهد، ولا تعرف إلاّ نفسها ومأساتها وأسئلتها.
وعن الأطفال الذين قصفت أعمارَهم الطريّة حروبُ الكبار هذه الحكاية/ الأغنية/ المرثيّة التي لا تصلح حتمًا لما قبل النوم ولا تشبه في أيّ حال ما قد تقوله أمّ ثكلى لو أطاعتها الكلمات:
"ما عادوا عَمْ يلعبوا
قدّام البواب
تفرفطوا متل ورقة ورد
يبست بهوني كتاب:
الزْغار ماتوا
ومِشْ رح يصيروا كبار.
لبسوا حرام الدفا
وتلفلفوا وراحوا
بالبرد شو بيحلا الغفا
بس هِنْ ما ارتاحوا
عم يندهوا وين الوفا
وباب العمر
كيف ضاع مفتاحو.
الزغار عن جدّ سرّبوا وماتوا
غلّوا بقلب الأرض وتخبّوا
جوّات حالن ع السكت فاتوا
وحزن الدني بعيونهن عبّوا.
عن جَدّ نزلت دموعن
عن جدّ احترقت وجوهن
عن جدّ دابت لعبهن
وبردت شموعن.
مش رح يصيروا كبار
مش رح يتعلّموا
مش رح يعشقوا
ومرّات رح يتألّموا
مش رح يجيبوا ولاد
ولا ينطروا الْعياد.
مش للحرب الولاد
للغنا
للرقص
لَشَوفةْ حال،
للغنج
للشيطنة
لَشغلة بال
انِبعدوا عن البيت
وطوّلوا المشوار،
للعب
والضحكة
وتَ يسألوا
ميّة سؤال،
وت يكبروا
ويختيروا،
مش ت يفلّوا
وبعدن كتير زغار
مش ت يموتوا
وما يصيروا كبار".

دروس الاقتصاد في امتحان التغيرات الاقتصاديّة



مساكين تلاميذ المدارس وطلاّب الجامعات الذين يملأون رؤوسهم معلومات اقتصاديّة صارت بين لحظة وأخرى من التراث والتاريخ وعبر الماضي. ومساكين لأنّهم مجبرون، وعلى الرغم من التغيّرات العالميّة في الأنظمة الماليّة، على التصرّف كأنّ شيئًا لم يكن. فما كتب قد كتب، وما من مجال الآن لتغيير المناهج، وبالتالي سيتقدّم هؤلاء المساكين لامتحانات صوريّة يعرف المعلّمون والتلاميذ على حدّ سواء أنّ ما يكتب في كراريسها وأوراقها لا قيمة علميّة له ولا يعبّر عن واقع الحال.
وهكذا نضع يدنا على قضيّة خطيرة في التعليم والتربية إذ نكتشف عجز المناهج في بلادنا عن مواكبة التغيّرات والتطوّرات والاختراعات والأبحاث، فتبدو الكتب كلّها كتب تاريخ تحكي عن أمور انقضت ولم يعد معمولاً بها في العالم، ولكن قوانين بلداننا التربويّة لم تستطع أن تواكبها. فقبل أن يدخل درس جديد أو يحذف آخر قديم هناك مراحل وخطوات لا بدّ منها: أوّلاً يجب أن يعلم القيّمون على التربية في بلداننا بما استجدّ على الصعيد العلميّ، وليس هذا بالأمر البسيط كما قد يظنّ بعضكم، فدون ذلك ملفّات عالقة منذ سنين وتحتاج رعاية خاصّة لا تسمح بمتابعة المستجدّات ساعة بعد ساعة. ثمّ هناك مشاورات واجتماعات وأفعال وردود أفعال وتغيّرات حكوميّة وموازنة تنتظر التصديق عليها، واستشارات يتدخّل فيها رجال الدين ورجال العلم ونساء رجال الدين ونساء رجال العلم، إلى أن تعطى الأوامر أخيرًا بتعديل هذا المنهج في تلك المادة.
هنا تبدأ مرحلة تأليف اللجان بعد تقرير إلى أيّ خطّ سياسيّ أو فكريّ أو دينيّ ينتمي أعضاؤها، ثمّ تصل مرحلة اعتكاف اللجان عن عملها بسبب تأخّر وصول الرواتب، ثمّ تعود اللجان لتجتمع وتدرس وتقرّر وتنال الموافقة على مقرّراتها. غير أنّ سجالاً يدور بين القيّمين على أمور التربية حول ما إذا كان للجان دور استشاريّ أو تنفيذيّ. وبعد أن يحسم الجدل، تصدر الأوامر السامية بتعديل المناهج.
في هذا الوقت يتابع التلاميذ دروسهم كالمعتاد. يدخلون إلى الصفّ عندما يقرع الجرس، يصل المعلّم، يشرح الدرس وهو غير مقتنع بكلمة واحدة ممّا يقوله، في حين ترنو عيناه إلى الباب لعلّ الناظر يصل ليخبره بأنّ الدولة قررت أخيرًا حذف هذا الدرس من المنهج. وحين يخيب أمله ساعة بعد ساعة، وحصّة بعد حصة، يكتشف أنّ السنة الدراسيّة مرّت، وأنّ التلاميذ مجبرون على التقدّم لامتحانات يعرفون جيّدًا أنّ ما سيكتب فيها لا يشبه الحقائق في شيء. ومع ذلك، على المصحّحين واللجان الفاحصة أن تحاسبهم بدقّة إن أعلنوا الحقائق التي تعلّموها عبر التلفزيون أو الإنترنت، أو التي سمعوها من آبائهم مدراء الشركات والمصارف. فليس كلّ ما يعلم يقال، وخصوصًا إذا كان ما يُعلم لا يتلاءم مع الدرس الذي حفظه المعلّم غيبًا، وعلى التلاميذ أن يردّدوه خلفه كالببغاوات، وأن يثنوا على نظريات كانت مسيطرة على النظام الاقتصاديّ المنهار الذي جرف مع انهياره أمان عائلات لن يُعرف عددها في وقت قريب.
ونعجب بعد ذلك، لماذا يكره تلاميذنا المدارس ويفضّلون عليها شبكة الإنترنت وبرامج التلفزيون وأفلام السينما. فإيقاع التربية الممل لا يتلاءم مع السرعة التي تجري فيها الأمور خارج الصفّ. و لا يعني ذلك في طبيعة الحال اللحاق الأعمى بقطار التطوّر السريع من دون تبصّر أو تمحيص، ولكن يجب أن تكون خلايا وزارات التربية كخلايا النحل: نشاط ومتابعة وتجديد وسعي واستباق المواسم قبل أن يموت الزهر ونخسر الرحيق فلا نذوق العسل.

مشاهدات من عالم الصحافة



تخضع الكتابة في الصحف لما هو أصعب من مزاج الكاتب نفسه، فثمّة أمزجة كثيرة تتحكّم بعمليّة النشر تصل أحيانًا إلى درجة من العبثيّة والفوضى والضبابيّة تضع النصّ في مهبّ عواصف لا ترصدها نشرات الطقس أو توقّعات الفلك.
لا تزال بعض حكايات عملي "الصحافيّ" في أكثر من مجلّة وصحيفة عالقة في ذاكرتي، على الرغم من مرور نحو عشرين سنة على نشر النصّ الأوّل، وما سيروى هنا هو بعض مشاهدات تعبّر عن القلق الذي يولد فيه النصّ ويكتب وينشر أو يرفض! سياسة الصحيفة حاجز أوّل كثيرًا ما توقّفت عنده لأسأل نفسي إن كان ما كتبته يلائم الاتجاه السياسيّ (وبالتالي الدينيّ والاجتماعيّ والفكريّ) الذي تسلكه هذه الصحيفة في هذه المرحلة المعيّنة، إذ قد تتغيّر السياسة في مرحلة لاحقة، أو تتناقض مع مرحلة سابقة. ولذلك كان عليّ أن أرصد يوميًّا ميول أصحاب القرار قبل أن أقرّر إرسال النصّ. الحاجز الثاني هو الشخص المسؤول عن القسم الذي سينشر فيه النصّ، فقد يتجاهله أو يضيّعه أو يسرق فكرته أو يؤجّله إلى ما بعد مرور مناسبته أو يقرّر أنّه دون المستوى المطلوب أو لا ينسجم مع النصوص السابقة، وكلّ ذلك في إطار من الرفض المهذّب الذي يستعمل أساليب التهرّب أو المماطلة أو التسويف أو التأجيل، وعند هذا الحاجز قال لي أحد "القياديّين" في إحدى الصحف اللبنانيّة وهو يعتذر عن عدم نشر النصّ: اتّصلي بي قبل أن تكتبي وقولي لي ما هي فكرة النصّ وأنا أقول لك إن كانت تصلح للكتابة عنها أو لا، لئلاّ تضيّعي الوقت من دون جدوى. طبعًا لم يعجبه جوابي حين قلت له: وماذا إذا سُرقت الفكرة؟ لم تغب عنه صيغة المجهول التي طرحت فيها السؤال وانتهى اللقاء، غير أنّ هذا الشاعر القياديّ نشر لي نصًّا باسم مستعار أرسلته كاختبار بعد ذلك اللقاء اليتيم وأعطاه الفسحة التي لم أكن أحلم فيها، وكتب فكرة نصّي المرفوض بتوقيعه. الحاجز الثالث هو الأنانيّة التي تصيب المسؤول عن مصير النصّ إذ يخشى أن تبهت في وجهه كتابات أخرى له أو لسواه، فليس من المسلّمات الطبيعيّة اليوميّة أن نجد في عالم الإبداع من يحتفي بالنصّ إذا لم يكن هو كاتبه أو يفسح له المجال لإثبات نفسه وقيمته. وإذا كانت النزعة النرجسيّة مقبولة عند الكاتب فهي مرفوضة عند المسؤول عن الصفحات الثقافيّة أو سواها لأنّ دوره الرياديّ يقضي بالإضاءة على المواهب والترحيب بالإبداع والاحتفال بالموهبة. الحاجز الرابع هو قيمة النصّ الماديّة أي كيف يتمّ تقييم النصّ في سلّم الرواتب والمكافآت، إذ هناك صحف تقول لك: عليك أن تدفع كي ننشر ما تكتبه، فنحن نقدّم لك مساحة للتعبير وفرصة للشهرة. وعند هذا القول عليك أنت أن تقرّر ما إذا كنت من أنصار الفنّ للفنّ أو الفنّ من أجل الخبز.
ومع ذلك بقيت أكتب وأرسل إلى الصحف وبقيت المفاجآت غير المفهومة موجودة، فأحيانًا كنت أتوقّع ألاّ ينشر لي نصّ ما لمعرفتي المسبقة بطبيعته الفجّة القاسية اللئيمة، ثمّ أجده أمامي على صفحات الجريدة بكامل فجاجته وقسوته ولؤمه، ومرّات أتوقّع أن يمرّ النصّ مرور الكرام ولا يلفت انتباه أحد فإذا بي أتلقّى رسائل الإعجاب، وقد يحدث العكس فأرسل نصًا أفتخر فيه وأنتظر أن يكون حديث النقّاد والناس غير انّه ينطفئ في غفلة من الجميع. لست وحدي إذَا من يتحكّم بمصير النصّ، فالكتابة بمزاجي الخاصّ شيء ونشر النصّ بحسب نظرة المسؤولين عن الصحيفة شيء آخر، وتلقّيه بحسب مزاج الناس شيء ثالث مختلف تمامًا. ومع ذلك، عاهدت نفسي طيلة عملي في الصحافة أن أكتب بمزاجي وألاّ أسأل عن مصير النصّ، إذ كانت عندي القناعة الداخليّة أنّ النصّ إن كان فيه شيء من القيمة الأدبيّة فسيفرض نفسه عاجلاً أم آجلاً، وأنا طبعًا أتمنّى أن ينشر على عجل وقبل أن يأتي الأجل.

السبت، 5 سبتمبر 2009

يوم وقفت الدولة في حضرة الأدب


ميخائيل نعيمة الأوّل من اليسار
برفقة زملائه في مدرسة الناصرة 1903

تعود إلى ذاكرتي في شكل واضح صورة الرئيس اللبنانيّ الياس سركيس وهو يقف ليلقي كلمته في حفلة تكريم الأديب اللبنانيّ ميخائيل نعيمة في القصر الرئاسيّ. وفي اليوم التالي صدرت الصحف وهي تحمل على صدر صفحاتها الأولى ما معناه: الدولة تقف في حضرة الأدب وذلك لأنّ ميخائيل نعيمة كان على حافة أعوامه المئة وبات عاجزًا عن الوقوف طيلة المراسيم الرسميّة، فاضطرّ إلى الجلوس بينما وقفت الدولة بشخص رئيسها وأركان حكمه وقالت لناسك الشخروب: مجد صنّين أعطي لك.
لا شكّ في أنّ اعتلال صحّة نعيمة فرضت خرق البروتوكول في تلك المناسبة وأجبرت الدولة على ما لم يكن في بالها، ولكن حبّذا لو تقوم الدولة، أيّ دولة، بالوقوف دائمًا في حضرة الأدب وإلى جانبه لا في وجهه لعلّ في ذلك خلاصها ومنعتها وأسباب رقيّها وعنوان مجدها. ومع ذلك، أخشى اقتراب المفكّرين والأدباء من أركان السلطة لأنّني أخشى من تسلّط الدولة عليهم وبالتالي على إبداعهم. غير أنّ لوثة السلطة والمراكز السياسيّة تصيب بعض المبدعين وتنقلهم من جهة المراقبة والنقد والتحليل والتوجيه إلى مرحلة المسايرة والمصانعة والمداهنة والتزلّف، وعند ذلك سيموت الإبداع فيهم وسيخسرون أنفسهم بقدر ما يخسرهم الفكر، أو سيدفعون حياتهم ثمنًا إن عارضوا الاتجاه السياسيّ لدولهم كما حدث خلال العصور العربيّة كافّة، ولعلّ ابن المقفّع مثال واضح على جدليّة العلاقة بين السلطة والمثقّف. ولا شكّ في أنّ مسيرة المتنبّي الشعريّة كانت ستختلف لو أعطي الإمارة التي كان يحلم فيها، وكتابات جبران خليل جبران الثوريّة ما كانت لتحمل، ربّما، كلّ هذه الأفكار التصحيحيّة لو قبل بعرض رئيس الجمهوريّة عهدذاك صديقه أيّوب تابت وصار وزيرًا في حكومة لبنان ما قبل الاستقلال، وهذا العرض على ما يقول الدارسون هو الذي جعل جبران يكتب نصّ: لكم لبنانكم ولي لبنانيّ. ولا شكّ في أنّ تجربة طه حسين مع وزارة المعارف لم تكن على مستوى طموحه الثقافيّ، وكذلك تجربة المخرج المسرحيّ ريمون جبارة في عمله الإداريّ في تلفزيون لبنان وهي خير دليل على ما يواجهه الإبداع حين يغرق في مستنقعات السياسة والأعمال المكتبيّة، وما "الفالج" الذي أصيب به هذا المخرج وجعله شبه عاجز عن تحريك نصف جسمه إلاّ البرهان، على ما يروي جبارة، عن الضريبة التي دفعها بسبب اقترابه من ذوي السلطة والشأن الذين غلّبوا مصالحهم الشخصيّة ورغبات أزلامهم على الهمّ الثقافيّ الذي كان هاجسه. هذا من دون أن ننسى تجربة الشاعر محمود درويش ومعاناة المفكّر إدوار سعيد مع أداء السلطة الفلسطينيّة. وليس المجال هنا لدراسة واقع الحال في الدول العربيّة كلّها، وعبر العصور، ولكنّ واقع الأمور يثبت أنّ المثقّف الذي نأى بنفسه عن الانصياع لرغبات المتسلّطين، ولو في الحدّ الأدنى المتاح، بقي عبر التاريخ شاهدًا على نقاء الفكر وبقائه.
تحتاج الدولة إلى المبدع من دون أن تجعله بوقًا لها، وعليها واجب الاهتمام به من دون أن تحوّله موظّفًا حكوميًّا، وفي الوقت نفسه، على المبدع أن يترك مسافة بينه وبين السلطة، فلا يغضّ النظر عن سياستها ولا يجعلها وليّة أمره ولا يرهن إبداعه في متاجر ألاعيبها ومؤامراتها. فللسياسة متغيّرات ومصالح وأهداف، وللإبداع قيم ومثاليّة وثوابت. ولكن ليس هذا ما يحدث في عالمنا العربيّ، فإغراءات السلطة أقوى من أن يرفضها بعض المثقّفين الطامحين إلى دور قياديّ ولو حاولوا إقناع أنفسهم والمعجبين بهم بأنّهم إنّما إلى التوجيه والإصلاح يسعون. لو وعى المثقّفون أنّ كونهم ضمير الأمّة والصوت الصارخ المحقّ أكثرُ فائدة بما لا يقاس من تحوّلهم يد الحكّام المنفّذة أو كتبة خطبهم البليغة، نعم، لو وعوا ذلك فعلاً لا قولاً لكانت أمّتنا على غير ما هي عليه اليوم.

من مصلحة العرب أن يحافظوا على طبيعة لبنان



يوم واحد في صيفيّات بحمدون أو عاليه يكفي كي يكتشف الواحد منّا أنّ ما يأتي أكثر الخليجيّين من أجله إلى لبنان ليس ما نظنّ أنّهم قادمون من أجله، أو على الأقلّ ليس ما كنت أظنّ أنّهم يأتون من أجله.
كنت أظنّ أنّ الخليجيّ يأتي إلى لبنان كي يستمتع بالطبيعة الخضراء، ومناظر الوديان والجبال والهواء البارد والضباب المتسلّل من النوافذ والأبواب، غير أنّني رأيت الخليجيّين ينامون إلى ما بعد الغروب، ثم يخرجون إلى المقاهي والمطاعم، فيجلسون على الشرفات المطلّة على الشارع حيث يتسكّع المتنزّهون، أو يقبعون أمام شاشات الإنترنت للثرثرة واللعب، وعند منتصف الليل أو بعده بقليل تبدأ السهرة مع المطربة والمطرب اللذين يحييان حفلة تمتدّ إلى ما بعد طلوع الضوء. ولا يجلس إلى جهة الجبل أو الوادي إلاّ من أراد الاختلاء بمن معه بعيدًا عن الأعين، وليس لتأمّل مناظر الطبيعة. نعم، كنت أظنّ أنّ الخليجيّ يأتي إلى لبنان من أجل الاصطياف ثمّ تبيّن لي أنّ الكثيرين منهم يأتون من أجل أطياف بشريّة فنيّة ووهم حريّة.
لا حاجة للقول طبعًا أنّ هذا الكلام العامّ في عناوينه يترك لحسن الحظّ حيّزًا كبيرًا لاستثناءات تطال كلا الجانبين: الخليجيّ واللبنانيّ. ولكن ما نتحدّث عنه هنا هو الجوّ السائد في مناطق الاصطياف التي، ومن نِعَم الصيف الآمن عليها، تعرف في شهري تمّوز وآب الكهرباء والماء والإسفلت والحركة التي فيها بركة لأصحاب البيوت والمطاعم والمتاجر.
ولكن من مصلحة العرب أن يحافظوا على طبيعة لبنان. هذا ما أفكّر فيه كلّ مرّة أكتشف قصرًا قيد الإنشاء أو فيلاّ في طريق الإنجاز أو بناء من طبقات شاسعة صار جاهزًا للسكن. فهذه المساحات الشاسعة التي أزيلت منها الأشجار والنباتات والأزهار البريّة التي تعطي لبنان طابعه المميّز، وهواءه النقيّ (في الجبال طبعًا)، ومناظره الساكنة ماذا سيبقى منها إذا تحوّلت مدنًا عابقة بنكهات الأراكيل في المقاهي، وملوّثة بأصوات تدّعي الطرب والفنّ، ومدروزة بالقصور التي يزورها أصحابها خلال شهر واحد وتخلو من الحياة خلال باقي أشهر السنة؟ طبعًا لا يملك العربيّ القادم إلى لبنان مخطّطًا مسبقًا يريد تنفيذه لتشويه لبنان، وهو حين يعهد بأمر البناء لشركة مقاولات أو مكتب هندسيّ إنّما يفعل ذلك واثقًا من أنّه سيجد مع حلول الصيف منزل أحلامه، ومصيف العائلة المتكامل. ولكن بات على العربيّ المستثمر في لبنان أن يوضح لمن يضع بين أيديهم مسؤوليّة تنفيذ حلمه أنّه أتى إلى لبنان لا بسبب طرقاته المزدحمة ونظام سيره "الفوضويّ"، ولا لأنّ طريق الجبال خطرة بسبب شاحنات النقل الخارجيّ، ولا بسبب التقنين في الكهرباء والماء (لولا بعض حياء يجعلهم يفعلون ذلك خلال فترة قبل الظهر حين يكون السائح نائمًا)، ولا بسبب الغلاء أو الوضع الأمنيّ القلق، بل بسبب طبيعة لبنان المختلفة عمّا يحيط بها في العالم العربيّ. ولذلك يجب أن يكون الحفاظ على الحدّ الأدنى من مساحة الأرض الخضراء عوض القصور والشقق والمسابح مطلبًا عربيًّا أوّل في غياب أيّ تشريع لبنانيّ ينظّم هذه الأمور. ولن ينتظر أحد من مهندس، ألبنانيًّا كان أو غير لبنانيّ، أن يفكّر في حلول وطنيّة بيئية مستقبليّة في حين أنّه قادر على جني أرباح طائلة من مشروع لا يشرف عليه أصحابه.
ويوم تتغيّر طبيعة لبنان، وتنخفض الجبال وترتفع الحرارة، وتختفي الأشجار وتظهر الصحراء، فلن تكون هذه القصور إلاّ حجارة بكماء لا تستطيع أن تشهد على أيّة حضارة، وقد تمّر عصور من غير أن تسقط قطرة مطر تملأ أحواض مسابحها الفارغة، ومن غير أن يمرّ عصفور في فضائها الأغبر، ومن غير أن نجد نبتة واحدة بين رخامها البارد.

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

ملكات الجمال والمهمّات المستحيلة

بوتيشيللي

ملكة الجمال الفرنسيّة لعام 2009 مهدّدة بحرمانها من عرشها وتاجها ولقبها إن ثبت أنّها صوّرت إعلانًا لملابس داخليّة مثيرة. ويقول المشرفون على لجنة الانتخابات إنّ هذا العمل غير لائق ويقدّم صورة لا تتلاءم مع المطلوب ممّن تحمل هذا اللقب.
من حقّ اللجنة طبعًا أن تحافظ على القوانين وتطبيقها وعدم التساهل في ما يخصّ الصورة المشرّفة التي يجب أن تكون عليها ملكة الجمال وعدم استغلال منصبها لأهداف ماديّة تجاريّة. ولكن من حقّنا أن نتساءل: أليس من شروط المباراة أن تعرض المرشّحات جمالهنّ في لباس البحر؟ أليست الهدايا والجوائز التي تنالها الملكة ماديّة وماليّة؟ ألا تهدف المتباريات إلى البروز الإعلاميّ والإعلانيّ بغية الانتقال لاحقًا إلى مجالات أخرى وأرباح أخرى؟ أم صدّق الجميع أنّ الملكات سيحققّن وعودهنّ المستحيلة التنفيذ في إحلال السلام والعدالة ومحاربة الفقر والأميّة والحفاظ على البيئة وسوى ذلك من الخطابات الرنّانة التي تلقيها الفتيات الشابّات على مسامع جمهور يصغي إليهنّ بعينيه الجائعتين؟ من المفروض ألاّ نحمّل الأمور الترفيهيّة أكثر من حجمها، وبغض النظر عن رأي كلّ منّا في هذه المباريات، لا يجوز أن نوليها الأهميّة التي تعطى لها في كلّ أنحاء العالم، وها هي وصلت اليوم إلى الجامعات في لبنان، ولم يعد المطلوب أن يعطى إكليل الغار للعلم والمعدّل المرتفع للعلامات بل للجمال والرقص الاستعراضيّ.
حين بدأت انتخابات ملكات الجمال في لبنان انتشرت في القرى والبلدات موضة اختيار ملكات محليّات ووزّعت ألقاب على عدد أنواع الفاكهة والزهور في لبنان: ملكة جمال التفّاح، ملكة جمال الزيتون، ملكة جمال الزهور، ملكة جمال الليمون، ملكة جمال الكرز، وهكذا كانت الألقاب مرتبطة بالمواسم. الآن، نحن في عصر العلم، والعلم (نورن) لمن لا يعلم، وبالتالي يجب أن تتغيّر الألقاب: ملكات جمال الكمبيوتر، ملكة جمال التلفزيون، ملكة جمال المراهقات، ملكة جمال المدرسة، ملكة جمال الجامعة. ودخلت التلفزيونات على خطوط التنظيم والرعاية والترويج والتقديم، وقدّمت المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال حفلة أسبوعيّة لانتخاب ملكة جمال إحدى الجامعات، في حضور العمداء والمدراء والأساتذة. ونستطيع الحكم في سهولة على المستوى الاجتماعيّ لطالبات هذه الجامعات من لباسهنّ وتصرّفاتهنّ وكلامهنّ، وبالتالي صرنا قادرين على التمييز بين الجامعات ذات المستوى العالي (جماليًّا وماديًّا)، والمتوسّط، والعاديّ. أمّا مستوى النجاح والتفوّق والشهادات فذلك ما لا مكان له على الشاشات. فالمجتهدات المتفوّقات الذكيّات والأقلّ جمالاً من سواهنّ قبعن في المنازل يراقبن زميلاتهنّ على الشاشة ويفكّرن في قرارة نفوسهنّ في أنّ أمّهاتهن سيمتن في حسرة المقارنة، فالقرد لم يعد في نظر أمّه هو الغزال كما كانت عليه الحال بل الغزال هو من يحسن غزل شباكه حول طريدة دسمة، وفي عصر الأزمات الاقتصاديّة ليس من الذكاء أن نأخذ القرد بسبب ماله، فالمال سيتبخّر وسيبقى القرد على حاله.
الإشكاليّة التي تطرحها هذه المسائل هو الخوف من الوقوع في التطرّف بسبب غياب الحسّ النقديّ والتحليل المنطقيّ. فليست الحلول الرفضيّة هي الحلّ، بل السعي إلى إقامة نوع من التوازن بين تقدير الجمال والأناقة وتقدير الإبداع والاجتهاد. فالمجتمعات تنمو بالتنوّع والتكامل، والحياة تحتاج إلى عناصر، ولو متناقضة، لتكتمل دورتها. فهل يعجز عقلنا عن إيجاد مباراة جديدة لا علاقة لها بما نستورده من العالم، تجمع بين الجمال والعلم والظرف والأخلاق؟ وهل نحتاج إلى مباريات عن الجمال ونحن كنّا السبّاقين إلى التغزّل بالجمال، وشعرُنا العربيّ، وهو سجّل تراثنا وعاداتنا، شاهد على ذلك؟ أم صرنا نستسهل النسخ الآليّ الذي عوّدنا على الخمول الذهنيّ؟

مشاركة مميزة

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل - 5 تشرين الأوّل 1993

فتاة تدخل ومعها تفاصيل حين نهتمّ بها، حياتنا أجمل حضرة الأستاذ زاهي وهبي في الرّسالة الأولى، أردت أن ألفت انتباهك إلى بعض الأم...

من أنا

صورتي
الريحانيّة, بعبدا, Lebanon
صدر لي عن دار مختارات: لأنّك أحيانًا لا تكون (2004)، رسائل العبور (2005)، الموارنة مرّوا من هنا (2008)، نساء بلا أسماء (2008)- وعن دار سائر المشرق: كلّ الحقّ ع فرنسا (رواية -2011- نالت جائزة حنّا واكيم) - أحببتك فصرت الرسولة (شعر- 2012) - ترجمة رواية "قاديشا" لاسكندر نجّار عن الفرنسيّة (2012) - ترجمة رواية "جمهوريّة الفلّاحين" لرمزي سلامة عن الفرنسيّة (2012) - رواية "للجبل عندنا خمسة فصول" (2014) - مستشارة تربويّة في مدرسة الحكمة هاي سكول لشؤون قسم اللغة العربيّة.